فقطعتني وقالت: كفى، هذا سباب، أنا أعلم حق العلم أن هنري هو ابن الحب، وما هو ابن الزواج، وأن قبلاتك هي التي بثت فيه روح الحياة، وهي التي أفاضت في عروقي نارا كانت مجهولة، وهي التي وجدت ينابيع نفسي التي كانت مختبئة بالقضاء والقدر، إن أقنوم الغرام لا يصير لحما إن لم يكن أقنوما، وأنت تعرف جيدا أني بك وحدك عرفت ذاك الأقنوم، فأنكر الآن إذا استطعت؟ قل: إن هذا الطفل ليس منك ... وقل أيضا إن عشقنا كان غرورا، وإن سكرنا كان رواية، وإن مداعباتنا كانت حيوانية ...
رأيت في الأم ذات الغيرة الشديدة التي كنت أراها فيها يوم كانت حبيبة، فاستعملت كل العبارات النافعة؛ لإخماد حدتها، وتسكين غيرتها، فقالت بحزن: ها قد مضى علينا يا حبيبي ستة أشهر لم نستطع في خلالها الاجتماع في بيتنا بشارع كوبنهاك، ولو تعلم كم آلمتني هذه الفرقة ...؟ فقد حكم علي أن أراك كغريب، وأن أحبك بالوهم، وأن أتظاهر بالحب لبعل أبغضه بقدر ما تراه عيني ... لم يحل فؤادي عنك؛ لأنه لك بأسره فهو ملكك ولك الحق في أن تعلم ماذا يحدث فيه هناك، حيث أنت السيد والملك، فأنا اليوم أحبك مثل قبل، بل أكثر من قبل، وكلما أنظر إلى هنري، كأني أراك به مرسوما ... نعم، إني أشتهي لنا ربيعا غراميا مثل الربيع الماضي فآخذك بين يدي، ونقول معا نشيد الجنون والغرام والقبل التي لا تحصى، آه يا إلهي، قد عشت طويلا ، فعرفت كيف تفهمون الوجود أنتم معاشر الرجال؛ ولهذا فأنا أحلك يا مكسيم من يمين الأمانة التي أقسمتها لي ذات مساء، فأنت الآن حر ... لكن بغير قلبك ...! أتفهم؟ أسمح لك بكل شيء سوى الغدر والخيانة، كل مع بنات المراسح إذا كان لك في ذلك سرور، ونم أنى تشاء النوم الذي يعبر به الرجال عن هذه الأشياء، لكني بعد فطام هنري، أذهب إليك أنى كنت أو مع أي امرأة تكون، وأحلف لك أني آخذك من يديها، اذهب الآن قبل أن يباغتنا أحد، ولا تقبلني مخافة أن تجنني قبلك وتحط من نشاطي ... بالأمان لا تنس شيئا مما قلت.
في ذات المساء دعاني فركنباك للعشاء عنده، فقبلت دعوته قصد أن أجتمع بريتا، وأظهر لها حال البلبال الذي رماني فيها حديثها في النهار، ولما أن آذنت الشمس بالغروب، جئت بيت فركنباك، فوجدت مدام جونريت وبلورتيها على أنفها، تشتغل برتق ملابسها، ورأيت ريتا جالسة على المقعد، وفي يديها كتاب تقرأ فيه، أما لويزا فكانت تضرب على البيانو، فاستقبلنني بسرور، ورحبن بي، فقالت مدام جونريت: كيف فكرت اليوم في أن تأكل معنا؟ - إنني أفتكر بكم دائما.
ثم قامت لويزا، وجعلت تبحث عن كتاب تشغل به أعينها إذا لم أقل فكرها، فقلت لها العفو يا سيدتي، فقد أتيت كمقلق الأعياد، وقطعتك عن إتمام اللحن الذي كنت تضربينه على البيانو، وقد سمعت بعضه من الخارج، وهو ما أظن من ألحان سيبستيان باش. - نعم يا مولاي، كنت أضرب لحنا لباش. - أتسمحين لي يا سيدتي أن أستأذن لك من مدام جونريت أن تضربي هذا اللحن من أوله وتتميه هذه المرة؟
فقالت ريتا: لا نحب ألحان باش، فاضربي غيرها. - ماذا تشائين يا عمتي. - لحنا غير ممل ولا جدي. - أتحبين مشهد أولاد شيمين؟ فهو لحن قصير لا يطول عذابك معه إذا أملك. - العنوان حسن، فاضربي هذا المشهد.
لويزا ماهرة بضرب البيانو، مهارة ينتهي الوصف إليها، وقد طالما سمعت الألحان التي ضربتها على البيانو، فلم تؤثر علي مثل هذه المرة، ولما أن انتهت من مشهد أولاد شيمين انتقلت إلى لحن آخر يدعى الحلم، فحسبت أني استؤسرت، وشعرت بأن دمي غلى في عروقي، وحرك دماغي بقوة، وتولتني هزة شديدة، فاغتدت أعصابي كأنها أوتار تضرب عليها ريشة عواد، ولا أعلم لأي شيء أنسب هذا الشعور وهذه العاطفة، وقبل منتهى الحلم سالت من عيني دمعة انفعال، وقفت على طرف مآقي مضطربة كأنها خائفة فمسحتها سرا.
فقلت لمدام جونريت: أيمكنني أن أستأذن لها بإعادة الحلم؟ - إذا كان ما تقول عن سلامة قلب، وكان بالحقيقة يلذك ضربها فإني آذن لها، أما إذا كان ذلك خداعا فالحذار الحذار، فإن العذارى يغرهن الثناء؛ لأن قلوبهن مثل الهواء.
وقالت ريتا: لعمرك ماذا ترى من الغرابة في هذا الحلم؟
فأجبتها بتحمس - وكانت لم تزل أعصابي ترتجف - نعم، إن الذي أراه أقوله لك بلا تعسف، وهو أن أما جالسة إلى مهد ابنها البكر قبيل نومه، وكانت أجفانه تنطبق، وفمه الحلو يفوه بشيء عذب لا أعلم ما هو كمناغاة الطيور، أو كصوت جري الماء على الأعشاب، وكأن أمه حارس تنتظر قدوم ملك النوم؛ ليظل تحت جناحيه هذا الشاروبيم الطريد من النعيم، ثم كأن الأوهام استفزتها فاغتدت وهي تسير في عالم الخيال بعيدة عن الأوجال البشرية، هناك في ذاك العالم الأرفع حيث لا حزن، ولا ألم هناك حيث الطهارة بلا دنس ولا عيب، هناك اختارت السكنى مع ابنها؛ ليعيش بعيدا عن مشاق الدنيا خاليا من الأشجان الكثيرة فيها حتى يكبر ويترعرع، وبينا هي تنحني على جبينه لتقبله كان الطفل قد نام.
فقالت ريتا بصوت متقطع: أعيدي لنا الحلم يا لويزا.
ناپیژندل شوی مخ