وحين استيقظت في الصباح، وقبل أن أسترد حواسي وأفتح عيني في تلك اللحظات التي نستعرض فيها بسرعة خاطفة ما حدث لنا في اليوم السابق، قبل أن أفتح عيني كان أول ما خطر لي هذا السؤال: أليس من المحتمل، ورغم كل شيء، أن تكون سانتي قد جاءت بالأمس لتبحث عن شوقي؟
ولكني بعد ثوان من التدبر، كنت أبتسم في هيام مغمض جميل.
وأفطرت جيدا، لأول مرة منذ شهور، ولأول مرة أيضا وجدتني آخذ الطريق إلى عملي في السابعة والنصف مع جيوش الطلبة والموظفين والكادحين. وفي الثامنة تماما كنت جالسا إلى مكتبي في الورش، واكتشفت أشياء غريبة؛ فلم يكن أحد من موظفي المكتب قد حضر بعد، لم يكن هناك إلا التومرجي العجوز، ولم يكن أحد من العمال المرضى أو المتمارضين قد حضر أيضا، كنت قد عودتهم أن آتي متأخرا في التاسعة والنصف أو العاشرة، وما دام الرئيس يحضر هكذا فلماذا يأتون هم مبكرين؟ وبدلا من أن أثور وجدتني أعذرهم وألقي اللوم على نفسي وأعاهدها أن كل شيء سيصير إلى ما يرام، وكل الارتباك الذي ساد حياتي سيزول حالا. كنت كالناقه من مرض، الفرح بشفائه وعودته إلى دنيا الأحياء.
وكل من جاء في ذلك اليوم من العمال منحته ما يريد من إجازات، ودفعت لفراش المكتب شلنا ثمن فنجان القهوة، تقبله الرجل بتجاعيد مندهشة ألغيت من صدغيه وملأت جبهته.
وقابلت عنتر وعبلة بترحاب حين جاءا بعد انتهاء العمل يستخفي كل منهما في الآخر ويقدم رجلا ويؤخر الثانية؛ إذ كنت قد دأبت في الأيام الأخيرة على استقبالهما بلا اهتمام وعلى الضرب بمشوراتهما عن العمل في العيادة عرض الحائط. وانعكست حالتي على وجهيهما فورا، وبدأت ضحكاتنا نحن الثلاثة تجلجل في أنحاء المكتب وكأننا في غرزة، واستمعت لمشاكل عنتر مع أخواته البنات بآذان عاطفة متفتحة. كان لا يكاد يطرق سيرة خلافه مع شقيقاته حتى أسد أذني وأروح أستمع إليه بتوهاني وسرحاني. واكتشفت أعجب وأغرب حقيقة؛ فقد عرفت أنه رغم هذه الخناقة المستعرة بين عنتر وأخواته حول ميراثهم من أبيهم، فأبوهم كان لم يمت بعد، كل ما في الأمر أنه كان شبه مقعد في فراشه وقد بلغ من العمر أرذله، وكان يحب عنتر لأنه ولده الوحيد، ففضله على بناته وكتب له البيت الذي فيه العيادة، وثارت البنات على الوضع وأقمن دعوى، وأقام عنتر أخرى، وطعون وحجوزات ودفوعات فرعية وقصة طويلة ظللت أستمع لها وأنا مشوق لتفاصيلها، وكأنها قضيتي الخاصة، وبلغ بي حب الاستطلاع درجة أن طلبت من عنتر أن يريني أباه هذا، خاصة وقد حكى لي أن أباه كان سائق قاطرة السلطان حسين الخاص، وأن جده كان السائق الخاص للخديو إسماعيل أيضا. - أمال إيه يا بيه؟ وشرفك عندي أنا متربي في قصر القبة، اوعى ألاقي روحي بلعب الحجلة هناك.
وأقول له ساخرا: مع ولاد السلطان يا عنتر؟
فيقول: لا، الكذب على الله حرام. كان فيه ولاد تانيين، إنما ولاد السلطان حد كان يستجري يشوفهم.
والحديث يدور بيننا ونحن في طريقنا إلى حي الفرنساوي القريب من العدوية؛ حيث يقيم عم مبروك والد عنتر، حي مزدحم متلاحم بالبيوت، شوارعه حواري، وحواريه شقوق ضيقة متعرجة، والشوارع والحواري ممتلئة إلى حافتها بمظاهرات دائمة من الخلق الذين لا تعرف من أين يأتون وإلى أين هم ذاهبون. وفي بيت من داخل بيت، ومن سلم مبني بالأحجار إلى كومة تراب عالية يقولون إنها كانت بيتا في يوم من الأيام وحين سقط لم يحفل أحد برفع أنقاضه، إلى شارع مقام فوق دور أول كامل؛ وصلنا حجرة عم مبروك الذي لم يتعظ بقصة الملك لير وكرر مأساته وأورث ابنه وبناته كل عقاره وممتلكاته وهو لا يزال حيا يرزق، فكانت النتيجة أن غضبت عليه بناته؛ لأنه اختص عنتر بنصيب الأسد، وتقززت منه زوجة عنتر حين جاء ليقيم مع ابنه، فاضطر الأخير مرغما لاستئجار هذه الحجرة له، الحجرة التي يقول عنها: والله بدفع فيها خمسين قرش بقطعهم من أكل العيال.
وبطريقة لا رهبة فيها ولا احترام مضى عنتر يزعق في أذن أبيه، ويخبره أنه أحضر له دكتورا ليفحصه، ويعتدل الأب في نومته ويجلس القرفصاء على المرتبة السمراء المتسخة، جلسة قرد عجوز، له نحافة القرد وشكله المضحك، وابتسامته التي لا تنتهي لو كان للقرد ابتسامات.
ومن أول لحظة أدركت أن العجوز دمه خفيف؛ فبرغم تبرم عنتر به كان أول ما قاله إنه ليلة الأمس فقط أحس بدبيب الرجولة يعود إلى جسده وبظهره يسخن، وأن عليه أن يعد العدة لزواجه في القريب العاجل.
ناپیژندل شوی مخ