وبتلك الطريقة وجد لي عنتر شقة، شقة كاملة، وفي شارع من شوارع الزمالك المهمة، وبثمانية جنيهات فقط.
وكان لقاء مؤثرا الذي تم بيني وبين صاحب البيت. قلت للبواب العجوز الذي كان يختفي بالأيام ثم يظهر فجأة، قلت له: إني سأعزل. ولم يبد عليه أنه فهم أو اهتم بما قلت، ولكني بعد ساعة وجدت صاحب البيت قد جاء بنفسه معفر الملابس، معطفه الأسود كاد يصبح رمادي اللون، وحتى طربوشه لم يسلم من الغبار، وعاتبني بتأثر شديد قائلا: إنه بذل المستحيل لراحتي، ورفض أن يؤجر دكانا لتاجر سمك مخصوص من أجلي. ودمعت عيناه وكادت عدوى التأثر تنتقل إلي لولا أني غيرت الموضوع وسألت عن أحواله، ولم أتمالك نفسي وأشرفت على الضحك وهو يخبرني بصوت لا يزال يحفل بالتأثر أنه ضرب عرض الحائط برأي أولاده وفتح الدكان مرة أخرى ومشغول فيه إلى شوشته، ولولا معزتي لما غادره في ساعة كتلك.
وانتقلت إلى بيت الزمالك الجديد. كانت الشقة في آخر طابق، والبيت مكون من خمسة أدوار، ورغم زمالكيته فلم يكن فيه مصعد، والسلم طويل ومتعب ولكن الشقة كانت لطيفة خفيفة الدم مكونة من حجرتين وصالة صغيرة وممر طويل لا يعرف سبب طوله، يؤدي إلى مطبخ واسع أهم ما فيه طرابيزة رخامية كبيرة مثبتة في الحائط. والضوء كان يملأ الشقة كلها حتى الحمام، والهدوء جميل تحس به مستتبا حولك في الشقة وفي البيت والحي حتى لتخاف عليه أن ينقطع أو ينتهي.
وكان عيب الشقة الوحيد - وربما كان سبب إيجارها المخفض - أن نوافذها تقع في ناحية خلفية، وتطل على ظهر العمارة المقابلة وسلم خدمها. ومن أول نظرة عرفت أن لا فائدة ترجى من نوافذي؛ فقد رأيت المشهد الذي لن يتغير، الخدم الصاعدين والهابطين، وصبيان البقالين وبائعي اللبن وكل هؤلاء الذين لا تستقبلهم إلا أبواب المطابخ.
وحين وضع العفش في الشقة بدت أنيقة؛ إذ كنت قد استغنيت عن معظم ما كان لي في شقة بولاق، وهبطت إلى أحد المحلات التي تبيع أثاث المزادات، وبالسبعة والأربعين جنيها فرق العلاوة التي ظللت أنتظر صرفها نصف عام وأضع لاستغلالها الخطط، اشتريت حجرة مكتب أنيقة لها كرسيان ضخمان مريحان وسجادة وصورة وفازات وستائر.
وكنت قد خرجت من شقة بولاق في الصباح وعهدت إلى عنتر وعبلة بمهمة التعزيل الذي لا أكره شيئا قدر ما أكرهه، وعهدت إليهما أيضا بمهمة صعبة: محاسبة أم عمر وإبلاغها أسفي لاضطراري للاستغناء عن خدماتها. وعدت من الورش إلى البيت الجديد مباشرة، ووجدت كل شيء قد نفذ كما أردت تماما، وأهم شيء أني لم أعثر لأم عمر على أثر، وكان خوفي الأكبر أن أذهب إلى الشقة الجديدة فيطالعني وجهها أو يلسع أذني نباحها.
وقضيت وقتا طويلا أجمل الصالة وحجرة المكتب، وأختار أنسب الأمكنة لقطع الأثاث القليلة، وأخرج من الشقة وأغلق الباب ثم أعود وأفتحها وأدخل لأرى وقعها على العين الغريبة، وأجرب الجلوس على الكرسيين وأسدل الستار الرقيق على النافذة ليختفي المشهد الخلفي، وأمتحن كل شيء بنفسي لكي أطمئن، وكنت وأنا أفعل هذا كله لا أنظر بعيني ولكن أنظر بعينها هي، وأرتب كل شيء لكي يبدو لها هي أجمل ما يكون؛ إذ كان الأوان قد آن لأعترف بالسبب الحقيقي في انتقالي من بولاق إلى الزمالك، والهدوء حجة قلتها لنفسي أول الأمر، ولكن وراء هذا كانت تكمن رغبتي في إعفاء سانتي من مشقة اقتحام المظاهرة البولاقية الدائمة للمجيء إلي، وأهم من هذا رغبتي في أن أجمل المكان الذي نلتقي فيه، وإن استطعت أجمل حياتي كلها من أجلها. ولم أكن أفعل هذا بهدف أن أظهر لها في مظهر غني أو لائق، ولم أكن أفعله للضحك عليها أو تجميل صورتي في خاطرها، بل لم أكن أفعله بإرادة مني أو من أجل سبب محدد واضح، وكنت أفعله بلا وعي ودون أن أحس أني أفعله.
ماذا أقول؟
يخيل إلي أننا حين نتحرك وحين نعمل وحين نعمل وحين نأكل وحين نصر على أخذ إجازتنا السنوية، وحين نقرأ كتابا أو نشاهد فيلما أو نسترخي ونحلم، يخيل إلي أننا نفعل هذا كله لكي نبحث عن شيء وراء هذا كله، شيء لا نجده في الطعام فنبحث عنه في الكتب، ولا نجده في الكتب فنبحث عنه في الصداقة والعمل، ولا نجده في العمل فنبحث عنه في الأحلام، شيء نؤمن أنه موجود ولكننا لا نعرف ما هو وكيف نجده، ولهذا تستمر عملية بحثنا عن هذا الشيء المجهول، ويستمر أملنا في العثور عليه، وبالاختصار نستمر نحيا. ويحدث في أحيان قليلة أن يعثر الواحد منا على هواية مثلا، على قضية يؤمن بها، على زوجة، وإذا به يدرك أنها الشيء الذي كان يبحث عنه طوال حياته، وقد يدرك بعد فترة أنه خدع وأنه لا يزال عليه أن يبحث ويكد، ولكنه ما إن يعثر على شيء كهذا حتى يصبح محور حياته وهدفها الأول.
أنا الآخر كنت قد بدأت أدرك أن سانتي قد تبلورت فيها كل أهدافي في الحياة، وقد أسخر الآن من نفسي، ولكني أيامها بدأت أومن حقيقة أن سانتي أكبر حتى من أن تكون عماد حياتي وهدفها الأول. إنها أروع وأسمى وأعظم من أن تصبح فقط مجرد هذا الهدف ولو كان الهدف هدف حياتي كل ما أمتلك.
ناپیژندل شوی مخ