وكنت قد قررت وأنا في القطار وذكرياتي عن بلدتنا تحضرني وأشواقي إليها هائجة أن أضرب صفحا عن ذلك الموعد مع سانتي لدخول السينما؛ إذ كان لدي إجازة طويلة، ولم يكن هناك ما أفعله إذا قطعت الإجازة يوم الأحد وعدت إلى القاهرة إلا ذلك الموعد.
كنت قد قررت هذا لأن ليلة الأوبرا كانت قد أضفت علي الطمأنينة ودفعتني لأن أثق بنفسي وأومن أنها تمت لي وأنها آجلا أم عاجلا في طريقها إلي، وأن من الممكن جدا أن أقف في مكاني ولا أتحرك، أو حتى أخلف موعدا وأنا ضامن مائة في المائة أن هذا لن يؤثر في علاقتنا، بل قد يزيد من استمساكها بي.
وكنت قد قررت هذا وأنا في طريقي إلى البلدة، غير أن الأيام التي قضيتها هناك غيرت كل شيء.
كنت كلما رأيت الموت يغمر كل شيء من حولي، وكلما فزعت إلى صورة سانتي في خاطري وتلمستها في خيالي، أزداد إعزازا لها ومبالغة في الحرص عليها، وخوف بارد مجهول أن أفقدها، أودعتها كل بريق الأضواء في المدينة، وكل الحياة الملتهبة العنيفة التي يحياها الناس هناك، كل آيات النشاط البشري والذكاء والجمال أودعتها سانتي، وتبلورت فيها - في تلك المدة القصيرة - كل أماني في حياة عريضة حافلة. وكلما رأيت الموت من حولي فزعت إليها، إلى الحياة كما أتصورها، إلى روح الحياة. وما كدت أطفئ شوقي إلى أهلي وذكرياتي وأصحو على واقع ريفنا العادي الرتيب حتى كنت أحن شوقا إلى حركة المدينة، وحياتها وأضوائها وأحلامي فيها ، والفتاة الجميلة الرائعة التي كانت تقف معي في الأوبرا بغطاء رأسها الإغريقي ذي «الطرة» وبريق سنيها، وشغفي بها وشغفها بي.
وما كادت تأتي ليلة السبت حتى كنت على أحر من الجمر قد قررت أن أسافر صباح الأحد لأوافي سانتي في الميعاد.
ولم يكن سهلا أن أنهي القرار إلى العائلة، وأصعب منه كان أن أواجه رفضهم البات وأن أكذب كذبا واضحا مفضوحا وأختلق الحجج والمعاذير.
وتحول الرفض تحت وطأة حججي إلى إلحاح، ثم تطرقت بهم طيبتهم الحبيبة إلى رجاء أن أقضي يوما آخر، مجرد يوم آخر.
وأخيرا سمحوا؛ فقد كانوا يعلمون أن رضاءهم أو عدم رضائهم لم تعد تسري على ابن المدينة، وكل يوم يزدادون اقتناعا أنه لم يعد يمت إلى دنياهم.
وكم زحفت ساعات الليل - ليل السبت - بطيئة كئيبة.
وكم كان الشروق رائعا جميلا.
ناپیژندل شوی مخ