وبصوت متناه في الخفوت أنهيت كلامي بسؤالها: صحيح يا سانتي، صحيح لم تكوني راغبة في أي شيء مما بيننا فقط تتحملينني؟ - أجل، أجل يا يحيى كنت أتحملك، هل كنت تعتقد شيئا غير هذا؟
وكمحاولة يائسة أثبت بها لنفسي أن كلامها غير صحيح ضممتها وقبلتها، فعادت تقول بلهجتها الدامعة السابقة: أرجوك يا يحيى، لا تفعلها أرجوك.
ورغما عني أحسست أني لم أعد أحتمل، ووجدت نفسي أنتفض واقفا وأغادر الحجرة إلى الصالة كمن أصيب بلوثة، وعند باب الحمام توقفت ورحت أشهق محاولا أن أبكي، لم أكن أعرف لماذا قمت وغادرتها، ولا لماذا أحاول أن أرغم نفسي على البكاء، ولا السبب في هذا الضعف الشديد الذي شعرت به يمتص كل قواي وإرادتي وكأني إنسان آخر غير الذي كنته في الصباح، إنسان آخر غير الرجل الناضج القوي الذي وقف وحده يواجه آلاف الرجال وتحيطه نمور غضبهم. أين هذا منه الآن وهو يواجه هذه الفتاة التي لا حول لها ولا قوة بأضعف ضعف وأسخف موقف؟
ولكن كنت في حالة غريبة لا أستطيع أن أوجه لنفسي سؤالا أو أجيب عليه، وأي شيء لم يهمني ولا حتى رأيها في وفي تصرفاتي أصبح يهمني، كنت أحس أني لا أستطيع أن أفعل إلا ما أفعله، إلا أن أتفرج على ما أفعله، وكأنما ركبتني إرادة أخرى أصبحت هي التي تسيرني.
ولم تمض سوى لحظات قليلة جاءت بعدها سانتي ورائي وأمسكتني من كتفي ومضت تهزني وتقول: ماذا حدث يا يحيى؟ ماذا حدث؟ ماذا جرى لك؟ فقلت لها وأنا أستدير وأواجهها وأحاول أن أبتسم: لا شيء لا شيء، نوبة، معلش! لم يحدث شيء أرجوك انسي ما حدث.
وكنت أقول هذا وأنا أراقبها؛ فحالتها كانت مختلفة تماما عن الحالة التي كانت عليها منذ برهة فوق الكنبة، وكأنما أفاقت تماما، وكأنما كانت مندمجة في دور ثم انتهت منه فانتهى تقمصها له. صوتها استرد حماسه وتدفقه، وملامحها استردت حيويتها، وابتسامتها أصبحت حائرة بين الاستنكار الخفيف والشفقة الخفيفة، وليس فيها أي حب استطلاع أو دهشة وكأنها كانت تعرف أني سأفعل هذا.
والمضحك أنني رغم أي اعتبار آخر كنت في تلك اللحظة بالذات أقول لنفسي: لو دموعها التي كانت تسيل كانت حقيقية، لو كانت منفعلة انفعالا حقيقيا أوصلها لدرجة البكاء، لما كانت قد استطاعت أن تسترد شعورها ونفسها بمثل تلك السرعة. لو كانت تحبني حقيقة لظلت سادرة في انفعالها السابق ولظلت تبكي. المحب الصادق لا يكون انفعاله انعكاسا لانفعال حبيبه، ولكنه يتصرف بوحي من نفسه ولا يملك إلا التصرف بما يمليه عليه شعوره هو. انفعاله يكون أقوى منه، وأقوى من إرادته، أما التحكم في الانفعالات وتغييرها حسب الحاجة وضبطها فأمر لا يستطيعه المحب.
أكثر من فتاة تحب رأيتها، وباستطاعة الإنسان أن يلتقطها من بين الآلاف، إنها تبدو كمن يعاني من جنون الإيمان بفكرة ثابتة، ولكنها ليست فكرة، شخص تؤمن به وتحبه ويشغلها عن العالم كله حتى ليصبح لها شكل المهاويس وتصرفاتهم.
وكانت سانتي أمامي في أتم قواها وتحكمها بنفسها.
وقلت لها: سامحيني، لقد أزعجتك، لم أكن أقصد هذا، ولكنه حدث برغمي، أرجوك انسيه.
ناپیژندل شوی مخ