ودارت بي الدنيا.
كانت هذه أول مرة أرى فيها سانتي تبكي، بل لم أكن أتصور مطلقا أنها مثلها مثل سائر البشر يمكن أن تبكي، وأعجب من هذا أنها تبكي في موقف لم أكن أتخيل أبدا أنه ممكن أن يدفعها للبكاء، والمذهل أنها لا تبكي بقصد أن تريني أو تري أحدا، ولكنها تبكي بلا وعي، ولا يمنعها انفعالها وبكاؤها أن تكف عن قراءة الخطاب.
ولم أصدق ما أراه برغم تأكدي من حدوثه، خيل إلي أنها تعد عدتها لتمثيل دور غضب آخر، أو أن هذا البكاء ليس حقيقيا بصورة ما.
ووجدت نفسي أتقدم منها في وجل، وأتحدث بصوت مسموع لتنتبه إلى وجودي، بل حاولت أن أضحك ولكني أنهيت المحاولة في الحال؛ فقد بدا ضحكي سخيفا لا مكان له ولا معنى، ووصلت إلى المكتب وانحنيت أواجهها وأحدق فيها، كان احمرار عينيها احمرارا حقيقيا، ودموعها دموعا حقيقية. ومع أني كنت قد أصبحت قريبا جدا منها إلا أنها أيضا لم ترفع عينيها عن سطور الخطاب، ولا أتت بأية بادرة تدل على أنها أحست باقترابي أو وجودي.
وإحساس غريب تملكني لحظتها حتى لقد دفع إلى ملامحي بابتسامة خفيفة باهتة لا تكاد تلحظها العين؛ فحين مضت فترة صدمتني الحقيقة وبدأت أنفعل وأحس. كان أول ما أحسست به لمحة اغتباط عابر ؛ فالمعنى الواضح لبكائها أنها قد تأثرت بكلامي تأثرا دفعها إلى البكاء.
وأنت إذا تكلمت وأبكيت شخصا ما بكلامك فهو دليل على أنه يحبك ما في ذلك شك، إن كلامنا لا يبكي من يكرهنا مهما أسرفنا فيه وقسونا، كلامنا يبكي فقط من يهتم بنا، من يحبنا.
ولكن اغتباطي لم يطل؛ فلم ألبث أن أحسست بشفقة طاغية جارفة تتملكني. لا لم تكن شفقة، إن الشفقة نحسها فقط تجاه من هم أضعف منا، أما هذا الإحساس تجاه ند لنا أو تجاه من نعتبره أعلى منا فلا أعرف ماذا أسميه؟ ولكني أحسسته، وأحسست معه أني وغد لأني جعلتها تبكي، مع أن غبطتي لأني أنا الذي أبكيتها كانت لم تزايلني بعد. وهكذا دخت في هذا المزيج الغريب المسكر من الفرحة والشفقة والفروسية والندم والرغبة في القيام بأي عمل عاجل يمنعها من الاسترسال في البكاء، والرغبة في عدم الإتيان بأي عمل من شأنه أن يوقفها عن البكاء؛ فقد كنت آسف له وأستعذبه، وأدوخ ألما حين أرى تساقط دموعها الحقيقية قطرة متبلورة وراءها قطرة متبلورة على صفحات الخطاب تذيب حبره وتبلل ورقه وتصنع دوائر شفافة متناثرة على صفحاته، وأحس في نفس الوقت بسعادة محرمة خفية لعجزي عن إيقاف هذه الدموع.
وكان لا بد أن أصنع شيئا، ورحت أردد: سانتي، سانتي، ما هذا؟
ولم يأتني جواب على تساؤلي، ظلت سادرة في قراءتها وبكائها فاستدرت وعانقتها محاولا أن أمنعها عن متابعة القراءة، ولكنها لم تستسلم لمحاولتي ومضت تقرأ وتبكي. ويأسا من المحاولة - التي كنت أتمنى لها الفشل في قرارة نفسي - رحت أضمها وأمرغ وجهي وأنفي في شعرها وأقبل عنقها وآخذها كلها بين ذراعي، وهي جالسة على الكرسي، جسدها في حالة استرخاء تام، ولأول مرة أحس بها مستسلمة استسلاما كاملا لي ولذراعي ولقبلاتي ...
وحتى وأنا في قمة نشوتي لم أستطع أن أمنع السؤال الملح من أن يطرق بالي ويوالي طرقاته، ماذا أبكاها؟
ناپیژندل شوی مخ