المحادثة الثانية التي دارت بيني وبين مدير الورش وصوته الدافئ الكسول الممتد وهو يقول لي يا دك...تو...ر، واحتداده فجأة حين أنذرته بأنه ما لم يتدخل فورا ويحل المشكلة فسأتصل بالوزير. ومهزلة الاتصال بالوزير؛ إذ كيف لموظف صغير أن يتصل بالوزير مباشرة مهما بلغت خطورة السبب، ثم الإحالة لوكيل الوزارة، وأخيرا اقتناع الوكيل وإيفاده مدير مكتبه، ومجيء مدير المكتب مستصحبا قائد فرقة بوليس ب أو ج لا أعرف، ضابط بوليس سمين ملظلظ على كتفه وصدره إشارات حمراء وخضراء وتيجان ونجوم، سكتت لها ضجة العمال، وجعلت سكرتير النقابة يخاطبه ويقول: يا سعادة الباشا، ثم الاتفاق الذي تم في النهاية، أن يعود العمال إلى عملهم في ذلك اليوم بلا إجازات وبدون أن يوقع على أحدهم خصم أو جزاء، وسكرتير النقابة وهو يزف للعمال الخبر وكأنه يزف إليهم البشرى، وكأن أيام الجمع قد ووفق على احتسابها، مع أن عودة العمال إلى عملهم كان ممكنا أن تتم بلا وزير أو قائد فرقة، ولكن السكرتير راح يؤكد للعمال أنه لولا جهوده وكلامه «اللاذع» لمدير مكتب وكيل الوزارة؛ لكان من المؤكد أن الوزارة ستصدر قرارا بفصل جميع العمال.
زعيق وخناق وأيمان مغلظة وأعصاب مشدودة قطعت ولم ينته المشهد الحافل إلا في الثانية والنصف، وما أكاد أبتعد عن الشارع الذي تستقر في نهايته الورش وأصبح بعيدا عن كل ما يمت إليها بصلة، حتى أحس وكأني أوشك على السقوط إعياء وتعبا. لم أكن قد أغمضت عيني وآلاف الوجوه تسبح في خيالي، وجه سكرتير النقابة، الصفيق الذي لا أدري لم بدأت أحس بشفقة عليه، ووجه قائد الفرقة الدسم المستريح، ووجه مدير المكتب الرفيع الجاد الذي لا يني عن ترديد: كده لا يا شيخ، ووجه عم مرسي، ووجه العامل الذي كان متشبثا بحديد النافذة لم يبرحه طيلة ما حدث، وجوه تسبح في خيالي، ووجوه، وآذاني فيها صرخات وطنين وهمسات. وهناك من أبعد مكان في شرق خيالي بدأ وجه ما يظهر ويتضح ويتكامل ويقترب، كان وجه سانتي، حيا ومبتسما ورائعا، بدأ مجرد وجه بين آلاف الوجوه، وأخذ نوره يزداد حتى بدأت الوجوه التي حوله تظلم، وظلامها يبهت ويبهت إلى أن أصبحت نفسي سماء ليلية صافية ليس فيها مضيء غير وجه سانتي. وما كنت قد قررته والخطاب الذي كتبته، والنية التي بيتها وعزمت على تنفيذها بعد زمن لن يزيد عن الساعة وبعد كل ما رأيت.
وحين دق الباب في الثالثة والنصف من ذلك اليوم، دبت حياة عنيفة في جسدي، واستعدت أقوى إرادة أمتلكها في حياتي، لقد جاءت.
وحتى قبل أن أفتح الباب، في تلك الأجزاء من الثواني التي كانت لا تزال واقفة فيها بالخارج وأنا في الداخل وزجاج الباب يفصلنا، في تلك الأجزاء من الثواني أحسست بدفقة انفعال ساخنة تنسكب في دمي وتسري في كياني كله. فرحة ونشوة وأمل كبير في سعادة حقيقية، وأهم شيء: يقين، يقين لا شك فيه أنها تريدني مثلما أريدها، وأن لديها هي الأخرى دوافع خاصة لي جعلتها تأتي.
وفتحت الباب وأنا أحاول أن أخفي سخونة انفعالي، وكل ما فعلته المحاولة أنها جعلتني أرتبك، بل وجعلتني يخيل لي أنها هي الأخرى مرتبكة.
ودخلت.
كنا في يوم من أيام فبراير، ولكنه لم يكن كسائر أيام الشهر، كانت حرارته تكاد تقترب من حرارة أيام الصيف، وكأنه يذكرنا بقرب مجيئه. وكانت سانتي تحمل جاكتتها على نفس اليد التي تمسك بها حقيبتها، وكانت ترتدي بلوزة سماوية على هيئة قميص و«جيب» رمادي. وكانت حرارة الجو قد وردت جسمها كله - وخدودها بالأخص - حتى بدت عيونها شديدة السواد، وكذلك بدا شعرها.
دخلت بخطوات سريعة نشطة ذكرتني بخفتها في أيامنا الأولى. ولأمر ما أحسست بإحساس طاغ حين تجاوزتني وأولتني ظهرها وهي تأخذ طريقها إلى حجرة المكتب، أحسست أني أحبها حبا عارما مجنونا. إحساس نادر ما كان يخالجني، بل لم أحسه بمثل تلك القوة إلا في هذه المرة التي أولتني ظهرها فيها. ربما كانت حين تواجهني يشغلني عنها محاولاتي لتبين ملامحها وانفعالاتها وكل خلجة من خلجاتها. أما وأنا أراها من ظهرها فأنا أحس بها ككل، ليس نفس الكل الذي أحس به حين أتذكرها مثلا، ولكنه «كل» أراه فعلا وأحس تجاهه بأضعاف أضعاف الانفعالات التي أحس بها إذا تخيلته، تلك اللحظة التي أراها فيها وكأنها خيال حقيقي.
شعور طاغ جرفني كالفيضان وجعلني أوقن أنني مستعد أن أفعل أي شيء لإسعادها، مستعد أن أقف ضد العالم كله من أجلها، مستعد أن أموت أكثر من مرة لأمنعها أن تصاب بالضيق لحظة.
ولم أكن أفكر وأنا أحس، كنت أدرك هذا بلا وعي. كانت أبشع جريمة في نظري أن أمسها - مجرد مس - بكلمة أو حتى بإشارة. لحظة أتمنى فيها أن أشف وأشف حتى أتلاشى إذا كان مجرد وجودي لا يريحها، ترى ماذا يحدث لو اطلعت على ما كنت قد أعددته لها في نفسي؟
ناپیژندل شوی مخ