[المقدمة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
[مقدمة المؤلف]:
الحمد لله الذي أوجدنا بقدرته، وأرشدنا بخلقه إلى معرفته، وتعبدنا بما شاء من عبادته، وصلواته على محمد المصطفى نبيه خير بريته، وعلى أهله وذريته وصحابته.
أما بعد: فلما كان مذهب الشافعي رحمة الله عليه اعتقادي، وفي " المهذب " درسي، وعليه اعتمادي، ثم طالعت في غيره من مصنفات أئمتنا ﵃ مسائل غير مذكورة فيه، يصعب علي استخراجها وانتزاعها من معانيه، فأشار علي بعض شيوخي رحمة الله عليهم بمطالعة الشروح وجمعها، والتقاط هذه المسائل ونزعها، لأستعين بمطالعته مع " المهذب "، على المسائل المنصوص عليها في المذهب.. فجمعت كتابًا قبل هذا، سلكت فيه هذا السبيل، لكني أغفلت البروز فيه وأقوال المخالفين، خشية التطويل، ثم نظرت، فإذا لي حاجة إلى ذكر ما أغفلته، واستيفاء ما تركته وأهملته، فجمعت هذا الكتاب مشتملًا من ذلك على ما قصدته، وعلى ترتيب " المهذب " رتبته، والله أسأل العون على ما أردته، والتوفيق في ما نويته، وهو حسبي ونعم الوكيل، ونعم المولى ونعم النصير.
1 / 3
ذكر نسب الشافعي ﵁: لا ينبغي لمن انتحل مذهب إمام أن يجهل نسبه.
وهو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن الشافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف جد النبي ﷺ؛ لأن النبي ﷺ محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. وكان لعبد مناف خمسة أولاد: هاشم بن عبد مناف جد النبي ﷺ، والمطلب بن عبد مناف جد الشافعي ﵀، وعبد شمس بن عبد مناف جد بني أمية، وعثمان بن عفان ﵁ منهم، ونوفل بن عبد مناف جد بني نوفل، وجبير بن مطعم منهم، وأبو عمرو بن عبد مناف ولا عقب له.
وكان المطلب جد الشافعي ﵀ كفل عبد المطلب بن هاشم جد النبي ﷺ؛ لأنه ولد بالمدينة، ومات أبوه، فمضى له المطلب، وقدم به مكة وهو رديفه، وعليه ثياب رثة، فإذا سئل عنه.. استحيا أن يقول: إنه ابن أخي، فكان يقول: عبد لي، فلما وصل منزله.. ألبسه ثم أخرجه، وقال: هذا ابن أخي، فسمي بذلك: عبد المطلب، وكان اسمه المطلب، وكان يسمى شيبة الحمد؛ لأنه ولد وفي رأسه شعرة بيضاء، وقيل: إن شافعا لقي النبي ﷺ وهو مراهق للبلوغ.
وأما مولد الشافعي ﵁: فإنه ولد بـ (غزة) - قرية من قرى الشام - سنه خمسين ومائة، فمكث بها سنتين، ثم حمل إلى مكة، فنشأ بها، وتعلم بها القرآن،
1 / 4
على سفيان بن عيينة، وغيره، ثم خرج إلى المدينة، فقرأ على مالك بن أنس " الموطأ " وحفظه، ثم دخل بغداد، وأقام به سنين، وصنف بها كتبه القديمة، ثم عاد إلى مكة، وأقام بها سنة تسع وسبعين، ثم عاد إلى بغداد، وأقام بها أشهرًا، ولم يصنف بها شيئًا، ثم خرج إلى مصر، فصنف بها كتبه الجديدة، وأقام بها إلى أن مات بها ودفن هنالك، وكان موته ليلة الجمعة، وقد صلى العشاء الآخرة آخر ليلة من شهر رجب، ودفن في يوم الجمعة. رحمة الله عليه.
قال الربيع: انصرفنا من دفن الشافعي ﵀ فرأينا هلال شعبان، وكان ذلك في سنة أربعة ومائتين، وكان عمره أربعًا وخمسين سنة.
وأصحابه البغداديون: الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، والحسين الكرابيسي، وأبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي، وأحمد بن حنبل، وهم الذين يروون عنه الكتب القديمة.
وأما أصحابه المصريون الذين يروون عنه الكتب الجديدة: فإسماعيل بن يحيى المزني، والربيع بن سليمان المرادي، والربيع بن سليمان الجيزي، ويوسف بن يحيى البويطي، وحرملة بن يحيى التجيبي، ويونس بن عبد الأعلى.
وإنما اخترنا مذهبه؛ لموافقته الكتاب والسنة والقياس. وأمرنا المتعلم أن
1 / 5
يتعلم مذهبه؛ لقوله ﷺ: «الأئمة من قريش»، وقال ﷺ: «تعلموا من قريش ولا تعلموها»، وروي: «ولا تعالموها، فإن عالمها يملأ الأرض علمًا»، وقال ﷺ: «الناس في هذا الشأن تبع لقريش، فمسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم» .
وليس في الأئمة المشهورين قرشي غير الشافعي ﵀، فكان اتباعه أولى من اتباع غيره.
وأما تخريج الأئمة المسألة على قولين وأكثر، فعلى معنى: أن كل قول سوى ذلك باطل، وليس على سبيل الجمع، ولا على سبيل التخيير، وقد يقوم للمجتهد الدليل على إبطال كل قول سوى قولين، فلم يظهر له الدليل في تقديم أحدهما على الآخر، فيخرجهما على قولين، وهذا كما فعل عمر ﵁ حيث قال: (الخلافة بعدى في هؤلاء الستة)؛ ليدل على أن الخلافة ليست في غيرهم.
وقد قيل: إن الشافعي ﵀ لم يمت حتى بين الصحيح من أقواله إلا في ست عشرة مسألة، أو سبع عشرة مسألة.
1 / 6
[كتاب الطهارة] [باب ما يجوز به الطهارة من المياه وما لا يجوز به]
1 / 9
كتاب الطهارة
باب ما يجوز به الطهارة من المياه، وما لا يجوز به قال الله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ [الفرقان: ٤٨] [الفرقان: ٤٨] .
إذا الطهور عندنا: هو الطاهر في نفسه، المطهر لغيره، وهو اسم متعد، وتعديته: تطهيره لغيره من الحدث والنجس.
وقال أبو حنيفة، والأصم: (هو اسم لازم غير متعد يعم جميع الطاهرات) .
وأجاز أبو حنيفة إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات، كالخل. وأجاز الأصم رفع الحدث بالمائعات الطاهرة غير الماء: كاللبن، والخل.
دليلنا: قوله ﷺ: «خلق الله الماء طهورًا» .
1 / 11
وقال ﷺ في البحر: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» . فخص الماء باسم الطهور، فدل ذلك على أنه لا يسمى غيره بهذا الاسم.
إذا ثبت هذا: فيجوز رفع الحدث، وإزالة النجس بالماء المطلق، كماء المطر، وذوب الثلج والبرد، وماء الآبار والأنهار؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ﴾ [الأنفال: ١١] [الأنفال: ١١] .
وروي: «أن النبي ﷺ كان يتوضأ من بئر بضاعة» .
وأما الثلج والبرد قبل أن يذوبا: فيجوز مسح الرأس والخف بهما لا غير.
وقال الأوزاعي (إذا أمره على العضو المغسول.. أجزأه) .
والدليل على أنه لا يجوز: أن أقل الطهارة جري الماء بطبعه على العضو المغسول، وهذا لا يوجد فيهما قبل أن يذوبا.
وتجوز الطهارة بماء البحر مع وجود غيره من الماء، ومع عدمه، وهو قول كافة العلماء، إلا ما حكي عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو: أنهما قالا: (التيمم أعجب إلينا منه) .
1 / 12
وقال ابن المسيب: إن كان واجدًا لغيره من الماء.. لم يجز الوضوء به، وإن لم يجد غيره.. جاز الوضوء به.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا﴾ [النساء: ٤٣] [النساء: ٤٣] . وماء البحر يسمى ماءً. وروى أبو هريرة: «أن رجلًا قال: يا رسول الله إنا نركب في البحر أرماثًا، ومعنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال ﷺ: هو الطهور ماؤه الحل ميتته»، وقال ﷺ: «من لم يطهره البحر، فلا طهره الله» .
[مسألة: الماء المشمس]
وأما الماء المشمس: فإن لم يقصد إلى تشميسه.. لم تكره الطهارة به؛ لأنه لا يمكن صون الماء عن الشمس، وإن قصد إلى تشميسه.. فهل تكره الطهارة به؟ فيه خمسة أوجه:
أحدهما - وهو المنصوص - (أنه يكره)؛ لما روي: «أن عائشة ﵂ سخنت ماء بالشمس، فقال لها النبي ﷺ: "يا حميراء، لا تفعلي هذا، فإنه يورث البرص»، تقول العرب: امرأة حميراء أي: بيضاء. وروي: أن عمر ﵁ كان ينهى عن الماء المشمس، وقال: (إنه يورث البرص)، فذكر أن رجلًا عانده في ذلك، وكان يتطهر به، فما مات حتى أصابه البرص.
1 / 13
وسواء شمس بالحجارة أو النحاس أو الزجاج، وفي الإناء المغطى والمكشوف.. فإنه يكره.
والوجه الثاني: لا يكره بحال، وهو قول أبو حنيفة، كما لا يكره ما تشمس بنفسه في البرك والأنهار.
والثالث: إن شمس في البلاد الحارة في آنية الصفر.. كره؛ لأنه يورث البرص، وإن شمس بغير ذلك.. لم يكره؛ لأنه لا يورث البرص.
والرابع - حكاه الشاشي - يكره في البدن، دون الثوب.
والخامس - حكاه أيضًا - إن قال عدلان من أهل الطب: إنه لا يورث البرص.. فلا يكره، وإن قال يورث.. كره، وهذا ضعيف؛ لأن النبي ﷺ قد أخبر أنه يورث البرص، فلا معنى للرجوع إلى قول أهل الطب.
فإن قلنا: يكره، فبرد الماء المشمس.. فهل تزول كراهة الطهارة به؟
سمعت بعض شيوخي يحكي فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: تزول الكراهة، لزوال التشميس.
والثاني: لا تزول الكراهة؛ لأنه لا يزول عنه اسم التشميس.
والثالث: يرجع إلى عدلين من أطباء المسلمين، فإن قالا: لا يورث البرص.. زالت الكراهة، وإن قال: يورث.. كره؛ لأن العلة في كراهته خوف البرص، فرجع إليهم في ذلك بعد التبريد.
فإن توضأ بالماء المشمس.. ارتفع حدثه؛ لأن المنع منه لخوف البرص، فلم يمنع صحة الطهارة، كما لو توضأ بماء حار أو بارد يخاف منه.
[فرع: الماء المسخن]
وإن سخن الماء بالنار.. لم تكره الطهارة به، سواء سخن بالوقود الطاهر أو
1 / 14
النجس. وقال مجاهد: تكره الطهارة به بكل حال. وقال أحمد: (إن سخن بالوقود النجس.. كرهت الطهارة به، وإن سخن بالوقود الطاهر.. لم تكره) .
دليلنا: (أنه كان يسخن لعمر ﵁ ماء في قمقم، فكان يتوضأ به) .
وروى «[الأسلع بن] شريك قال: (أجنبت وأنا مع النبي ﷺ في سفر، فجمعت أحجارًا، وسخنت ماء، فاغتسلت به، فأخبرت النبي ﷺ بذلك، فلم ينكر علي» .
وروى ابن عباس ﵄: «أن النبي ﷺ دخل حمامًا بالجحفة، فاغتسل منه» .
ولا يكره الوضوء والغسل بماء زمزم. وقال أحمد في إحدى الروايتين عنه:
1 / 15
(يكره)؛ لما روي عن العباس بن عبد المطلب: أنه قال في ماء زمزم: (لا أحلها لمغتسل، وهي لشارب حل وبل) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا﴾ [النساء: ٤٣] [النساء: ٤٣] . وهذا ماء؛ ولأن الناس يفعلون ذلك من لدن النبي ﷺ إلى وقتنا هذا من غير إنكار.
وأما ما روي عن العباس ﵁: فيتحمل أنه نهى عن ذلك في وقت قل الماء فيها، وكثر من يطلب الشرب منها.
[مسألة: الماء غير المطلق]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وما عدا ذلك من ماء ورد، أو شجر، أو عصفر، أو ماء زعفران، أو عرق.. فلا يجوز التطهر به) .
وهذا كما قال: لا يجوز رفع الحدث بغير الماء المطلق من المائعات الطاهرة، كـ (ماء الورد): وهو الماء الذي يعتصر من الورد. و(ماء الشجر): وهو أن يقطع الشجر رطبًا، فيجري منه الماء، و(ماء العصفر والزعفران): وهو ما اعتصر منهما.
وبه قال عامة أهل العلم، إلا الأصم، فإنه قال: يجوز رفع الحدث بكل مائع طاهر.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا﴾ [النساء: ٤٣]، فنقلهم من الماء عند عدمه إلى التيمم، فدل على أنه لا يجوز الطهارة بغيره.
وأيضًا: فإن الصحابة - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - قد كانوا يسافرون، فيعدمون الماء، فيتيممون، وما روي أن أحدًا منهم توضأ بمائع غير الماء.
وأما (العرق): ففيه ثلاث روايات:
1 / 16
(الأولى): قيل: عرق - بفتح العين والراء - وهو عرق الآدميين وغيرهم.
و(الثانية): قيل: عرق - بكسر العين وسكون الراء - وهو ماء عروق الشجر.
و(الثالثة): قيل: عرق - بفتح العين وسكون الراء - وهو الماء الذي يعتصر من أكراش الإبل، كانت العرب تفعله في المفاوز.
والجميع لا تجوز الطهارة به.
أما الأولان: فلما قدمناه. وأما الثالث: فلأنه نجس.
[مسألة: الطهارة بشيء من الأنبذة]
مسألة: [في الأنبذة]:
ولا تجوز الطهارة بشيء من الأنبذة.
وقال أبو حنيفة: (يجوز الوضوء بنبيذ التمر المطبوخ في السفر عند عدم الماء) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا﴾ [المائدة: ٦] [المائدة: ٦] . فنقلهم عند عدم الماء إلى التيمم، فدل على أنه لا يجوز الوضوء بغيره من المائعات. إذ لو جاز الوضوء بغيره من المائعات.. لكان النقل إليه أقرب من التراب؛ لأنه أقرب إلى صفة الماء.
[فرع: إزالة النجاسة بالمائعات]
ولا تجوز إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات.
وقال أبو حنيفة: (تجوز إزالة النجاسة بكل مائع طاهر مزيل للعين، كالخل) .
1 / 17
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ﴾ [الأنفال: ١١] [الأنفال: ١١] . فخص الماء بالتطهير.
وروي «أن النبي ﷺ قال لأسماء بنت أبي بكر في دم الحيض يصيب الثوب: "حتيه واقرصيه، ثم اغسليه بالماء» . فخص الماء بالغسل به، فدل على أنه لا يجوز بغيره.
و(الحت): هو أن تحكه بضلع أو جريدة. و(القرص): أن يفرك باليد، يراد بذلك المعونة للماء.
وقد روي «أن النبي ﷺ قال لأم قيس بنت محصن: حكيه بضلع، ثم اغسليه بماء وسدر» .
وبالله التوفيق
1 / 18
[باب ما يفسد الماء من الطاهرات وما لا يفسده]
إذا اختلط بالماء شيء طاهر، ولم يتغير به الماء لقلة المخالط.. لم تمنع الطهارة بالماء؛ لأن الماء باق على إطلاقه. وإن لم يتغير الماء بما خالطه من الطاهرات التي تسلب تطهير الماء إذا غيرته لا لقلة المخالط، ولكن لموافقته الماء في صفاته، كالعرق، وماء الورد إذا انقطعت رائحته.. قال ابن الصباغ: وهذا يبعد؛ لأنه لا بد أن ينفرد عنه بطعم، فإن اتفق ذلك.. ففيه وجهان:
أحدهما: يعتبر هذا المخالط بغيره من الطاهرات التي تغير صفته صفة الماء، فيقال: لو كان هذا المخالط من الطاهرات التي تخالف صفتها صفة الماء.. هل كانت تتغير صفة هذا الماء به؟
فإن قيل: نعم.. قيل: فهذا أيضًا يمنع الطهارة به وإن لم يتغير الماء.
وإن قيل: لا يتغير صفة هذا الماء.. قيل: فكذا هذا أيضًا لا تمنع الطهارة به؛ لأنه لما لم يمكن اعتبار هذا المخالط بنفسه، لموافقته الماء في الصفة.. اعتبر بغيره مما يخالف الماء، كما نقول - في الجناية على الحر التي ليس لها أرش مقدر -: لما لم يتمكن اعتبارها بنفسها.. اعتبرت بالجناية على العبيد.
قال ابن الصباغ: وهذا يبعد؛ لأن الأشياء تختلف في ذلك، فبأيها تعتبر؟ فإن قال: بأدناها صفة إلى الماء.. قيل: فاعتبر هذا المخالط بنفسه، فإن له صفة ينفرد بها عن الماء.
والوجه الثاني - وهو الصحيح -: إن كان الماء أكثر من المخالط له.. جازت الطهارة به؛ لبقاء إطلاق اسم الماء عليه. وإن كان المخالط له أكثر من الماء.. لم تجز الطهارة به؛ لأن إطلاق اسم الماء يزول بذلك.
وإن كان المخالط للماء المطلق ماء مستعملًا في الحدث، وقلنا: إنه ليس بمطهر.. فإن الشيخ أبا حامد وابن الصباغ قالا: يكون الاعتبار هاهنا بالكثرة وجهًا
1 / 19
واحدًا. وقال القاضي أبو الطيب: هي على وجهين، كما لو خالطه ماء ورد انقطعت رائحته، أو عرق.
إذا ثبت هذا: فذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": إذا احتاج في طهارته إلى خمسة أرطال ماء، ومعه أربعة أرطال ماء، فكمله برطل من مائع لم يتغير به، كماء ورد انقطعت رائحته.. فهل تجوز الطهارة به؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي علي الطبري، وأبي حنيفة -: (أنه لا تصح الطهارة به)؛ لأنه كمل الوضوء بالماء والمائع، فأشبه إذا غسل بعض أعضائه بالماء، وبعضها بالمائع.
والثاني: تصح الطهارة به. قال أصحابنا: وهو الصحيح؛ لأن المائع استهلك في الماء، فصار كما لو طرح ذلك في ماء يكفيه.
والذي تبين لي في هذه المسألة: أنها مبنية على الوجهين في المائع إذا وقع في الماء ولم يغيره، لموافقته الماء في الصفة:
فإن قلنا: إن المائع الذي توافق صفته صفة الماء يعتبر بغيره من الطاهرات التي تخالف صفته صفة الماء.. لم تجز الطهارة به هاهنا بشيء من هذه الخمسة الأرطال وجهًا واحدًا؛ لأنا لو قدرنا في عقولنا أن رطلًا من قطران، أو زعفران، وقع في أربعة أرطال من الماء.. لغيره.
وإن قلنا: إن الاعتبار بكثرة الماء، أو بكثرة المخالط.. فهاهنا وجهان:
[أحدهما]: قال أبو علي الطبري: لا تجوز الطهارة به.
والثاني: قال سائر أصحابنا: تجوز.
فكان أبو علي الطبري يقول: إن المائع الطاهر إذا خلط بماء يكفي للطهارة، ولم يغير صفة الماء، وكان الماء أكثر.. تصح الطهارة به، وإن كان الماء لا يكفي للطهارة إلا بالذي خالطه من المائعات الطاهرات.. لم تصح الطهارة به.
1 / 20
ويأتي على قول أبي علي: لو احتاج في الغسل عن الجنابة إلى عشرة أرطال ماء وليس معه إلا تسع أرطال ماء، فطرح فيه رطلًا من ماء ورد انقطعت رائحته، ولم يتغير به الماء، فإن اغتسل بجميعه عن الجنابة.. لم تصح. وإن توضأ بجميعه عن الحدث.. صح. وهذا ظاهر الفساد.
وغيره من أصحابنا قالوا: لا فرق بينهما؛ ولهذا قاسوا ما يكفي للطهارة إلا بالمائع على ما يكفي بنفسه للطهارة، فهي وإن كانت مقدمة في " المهذب " في الباب الأول، إلا أنها مبنية على الوجه الأول في الباب الثاني. ولعله فرعها على الصحيح.
وإن تغيرت إحدى صفات الماء من طعم، أو لون، أو رائحة بشيء مما خالطه من الطاهرات.. نظرت:
فإن كان مما لا يمكن حفظ الماء منه، كالطحلب - وهو نبت ينبت في الماء - وما يجري عليه الماء من الملح، والكحل، والزرنيخ، والنورة، وما أشبه ذلك.. جازت الطهارة به؛ لأنه لا يمكن صون الماء عن ذلك.
وإن جرى الماء على التراب، فتغير الماء به.. لم يمنع الطهارة به، واختلف أصحابنا الخراسانيون في علته:
فمنهم من قال: لأنه لا يمكن صون الماء عنه، فهو كالطحلب إذا تغير به الماء.
ومنهم من قال: لأن التراب يوافق الماء في التطهير.
1 / 21
وإن تناثرت أوراق الشجر في الماء، فتغيرت بعض صفاته.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو المشهور -: أنه تصح الطهارة به. قال الطبري: وهذا قول من يقول: إن العلة في الماء إذا جرى عليه التراب، فغيره.. أنه لا يمكن صون الماء عنه؛ لأن هذا لا يمكن أيضًا صون الماء عنه.
والوجه الثاني: لا تصح الطهارة به. قال الطبري: وهذا قول من يقول: إن العلة في التراب: أنه يوافق الماء في التطهير؛ لأن هذا لا يوافق الماء في التطهير.
والثالث: إن كان الورق خريفيا.. لم يمنع الطهارة بالماء. وإن كان ربيعيا.. منع، والفرق بينهما من وجهين:
أحدهما: أن الربيعي يخرج منه رطوبة تختلط بالماء. والخريفي يابس لا يخرج منه شيء.
والثاني: أن الربيعي قلما يتناثر، فيمكن صون الماء عنه، والخريفي يتناثر غالبًا، فلا يمكن صون الماء عنه.
والأول أصح، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره.
وإن طرح في الماء ملح، فغير إحدى صفات الماء.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو قول الشيخ أبي حامد، والبغداديين من أصحابنا -: إن كان الملح انعقد من الماء.. لم يمنع الطهارة به؛ لأنه كان ماء في الأصل، فهو كالثلج إذا ذاب في الماء. وإن كان الملح جبليا.. منع الطهارة بالماء، كما لو طرح فيه دقيقًا، فغيره.
1 / 22
والثاني - وهو قول القفال، واختيار المسعودي [في " الإبانة ": ق \ ٢]-: أنه لا تمنع الطهارة بالماء، سواء كان الملح انعقد من الماء، أو كان جبليا؛ لأن كل ملح أصله الماء.
والثالث - يحكى عن ابن القاص -: أن كل واحد من المحلين يمنع؛ لأنه قد خرج عن صفة الماء، فهو كالطحلب. والأول هو المشهور.
وإن طرح التراب في الماء، فغير صفته.. فالبغداديون من أصحابنا قالوا: تجوز الطهارة به؛ لأنه يوافق الماء في التطهير، فهو كما لو صب ماء ملح على ماء عذب، فتغير به.
وأما الخراسانيون فقالوا: إن قلنا: إن الماء إذا جرى عليه فتغير به، أن العلة فيه: أنه يوافق الماء في التطهير.. لم تمنع الطهارة بالماء هاهنا.
وإن قلنا: إن العلة هناك: أنه لا يمكن صون الماء عنه.. منع الطهارة به.
وإن أخذ الطحلب، أو ورق الشجر، ودق وطرح في الماء، فغيره.. فهل تصح الطهارة به؟ فيه وجهان، حكاهما أبو علي في " الإفصاح "، والشيخ أبو حامد:
أحدهما: تصح الطهارة به، كما لو تغير بالطحلب الذي نبت فيه.
والثاني: لا تصح الطهارة به، وهو المشهور؛ لأنه زال عن أصله بصنعة آدمي، بخلاف النابتة فيه، فإنه لا يمكن صون الماء عنه.
1 / 23
[فرع: حكم ما غير الماء كزعفران]
]: وإن وقع في الماء زعفران، أو كافور، أو دقيق، أو ثمر، أو ما أشبه ذلك، فغير إحدى صفاته.. لم تسلب طهارته، فيجوز شربه، ولكن يسلب تطهيره، فلا تصح الطهارة به.
وقال أبو حنيفة: (إن كان الماء يجري بطبعه، صحت الطهارة به، إلا ماء اللحم وماء الباقلاء، فلا تصح الطهارة به، وإن كان الماء لا يجري بطبعه.. لم تصح الطهارة به) .
دليلنا: أنه زال عنه إطلاق اسم الماء بمخالطة ما ليس بمطهر، والماء مستغن عنه، فلم تصح الطهارة به، كماء اللحم، وماء الباقلاء. وإذا شدد (الباقلا) .. قصر، وإذا خفف.. مُدَّ.
فقولنا: (زال عنه إطلاق اسم الماء) احتراز من هذه الأشياء الطاهرة إذا وقعت في الماء، ولم تغير صفاته.
وقولنا: (بمخالطة) احترازٌ من الماء إذا تروح بجيفة بقربه.
وقولنا: (ما ليس بمطهر) احتراز من التراب، على المشهور من المذهب.
وقولنا: (والماء مستغن عنه) احتراز من الماء إذا جرى على الكُحل، أو نبت فيه الطحلب، فتغير به.
وإن حلف: لا يشرب الماء، فشرب من هذا الماء، قال القاضي في " التحقيق ": لا يحنث.
وإن وكل من يشتري له الماء، فاشترى له الوكيل هذا الماء، لم يصح الشراء في حق هذا الموكل؛ لأنه لا يدخل في إطلاق اسم الماء.
1 / 24
[فرع: تغير رائحة الماء بمجاور]
وإن وقع في الماء دُهن طيب، أو عود، فتغير به ريح الماء، ففيه قولان:
أحدهما - وهو الأصح -: أنه لا يمنع الطهارة بالماء؛ لأن تغيره عن مجاورة، فهو كما لو تغير ريحه بجيفة بقربه.
والثاني: يمنع الطهارة به، كما لو طرح فيه زعفران فتغير به.
وإن وقع في الماء قطران فغير ريح الماء.. فقد قال الشافعي في " الأم " [١/٦]: (لا يجوز الوضوء به)، وقال بعده بأسطر: (إن وقع به قطران، أو بان، فتغير به ريح الماء، لم يمنع الوضوء به) .
فقال الشيخ أبو حامد، والمحاملي: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين، فحيث قال: (لا يجوز الوضوء به)، أراد: إذا اختلط بأجزاء الماء، وحيث قال: (يجوز)، أراد: إذا لم يختلط بالماء، وإنما تغير به عن مجاورة.
قال أبو علي الطبري: وقيل: إن القطران على ضربين: ضرب يختلط بالماء، وضرب لا يختلط به.
[فرع: حكم ما لا يختلط بالماء كالكافور]
وإن وقع في الماء قليل كافور، وهو مما لا يختلط بجميع أجزاء الماء، وإنما يختلط باليسير منه، فتغير به ريح الماء.. ففيه وجهان:
أحدهما: تجوز الطهارة به؛ لأن تغيره عن مجاورة.
والثاني: لا تجوز، كما لو وقع فيه زعفران، فتغير به.
وبالله التوفيق
1 / 25