ويوم الإثنين الماضي والعربة تمضي بنا على طريق المعاهدة، الطريق الذي أنشئ تنفيذا لمعاهدة 36 ليسهل «جلاء» قوات الاحتلال، فاستعمله الإنجليز أثناء الحرب ليسهل «دخول» قوات جديدة، والعربة تمضي بنا كالريح، فالطريق ممهد وجميل، صنع خصوصا لجلاء جيوش، فما بالك بعربة أومنيبوس، وترعة الإسماعيلية تتلوى كخيط طويل من الصبر، كطول بال المصريين، والحدائق على جانبيها، موز ومنجة، وبساتين بركات، وسجن أبي زعبل، ومحطة إذاعة لها عواميد هوائية طويلة طويلة تصل إلى عنان السماء لتذيع: نورا يا نورا يا نورا يا وردة حلوة في بنورة، والإنسان ما إن يتسلمه طريق المعاهدة حتى يحن إلى الصحراء ويحلم بالبحر الأصفر الهائل، وما يكاد يرى الرمال حتى يفاجأ بما فوقها من معسكرات فيركبه الغم.
أما المفاجأة هذه المرة فهي أني لمحت، في نفس المكان الذي اعتدت رؤية العساكر الإنجليز فيه، عسكريا مصريا أسمر، سمرته جميلة، كالعسل النحل حين يقطف في الشتاء ..
وقلت في نفسي هذا شيء جديد.
وتوالت المعسكرات. وتوالى ظهور العساكر المصريين، يرتدون نفس الرداء الإنجليزي، ولكن وجوههم سمراء، وضحكاتهم أعلى، ولا يلهثون من حرارة الشمس.
الأرض التي نمر عليها ملغمة بالتاريخ، في كل خطوة حادث جلل، على مرمى البصر دارت معركة التل الكبير، من نفس هذا الطريق عبر الجيش المصري سنة 1882، هنا خان خنفس بك ، في تلك البقعة وقف زعيم الشعب عرابي يتسلم هدايا الأهالي من الرز والطيور والسلاح.
هذه الأرض، لم يكن مصرحا لنا بالمرور فيها، كانت أقدام الإنجليز فقط هي صاحبة الحق في وطئها، لها أن تمضي عليها وتدوس تاريخنا، وأيامنا، ومفاخر قومنا، هذه الأكوام من الرمال قد تكون أجداث أجدادنا الذين ماتوا وهم يقولون: اللهم انصرنا على القوم الكافرين. وهم يقولون: الخديوي خائن. وهم يقولون نريد الدستور، نريد البرلمان. ماتوا وعرابي يقول: باسم أهالي الديار المصرية جئنا نطلب حقنا وحريتنا. هذه الأرض صارت معسكرات، وامتلأت بزجاجات الويسكي الفارغة، وأقام عليها أعداؤنا دورات مياههم وحظائر كلابهم.
والعربة لا تكف عن المضي سريعة كأسراب الأحداث، لا تتوقف كالزمن، والعساكر المصريون يظهرون، فجأة، في المعسكرات، ويتولون هم حراسة أرضنا ورمالنا وتاريخنا.
وتوقفت العربة في الإسماعيلية.
وللتاريخ هو الآخر وقفة في الإسماعيلية.
هذه البلدة النظيفة ذات البيوت المنخفضة. غريبة تلك البلدة، إنها ليست من مصر .. إنها معسكر مدني، أقيم للترفيه عن قوات الاحتلال، وموظفي القناة. فيلات رائعات يكسو اللبلاب جدرانها، ويتسلق حتى يغلفها، وشوارع لا تراب فيها .. ولا ذباب، وهدوء مأخوذ من هدوء بحيرة التمساح، وخواجات متمصرون، ومصريون كالخواجات، ولغة .. كملابس مجاذيب الحسين، من كل لسان كلمة، ومن كل بلد لكنة، حاول موظفو القناة الفرنسيون أن يجعلوا منها ضاحية من ضواحي باريس، ثم جاء الإنجليز، وحاولوا جعلها من ضواحي لندن، وكان هناك دائما مصريون، ولهذا بقيت مصرية، المصريون فيها أفقر الناس ولكنهم يدركون أنهم أصحابها، والأجانب أغنى الناس، ولكنهم يعلمون تماما أن مقامهم مهما طال موقوت.
ناپیژندل شوی مخ