وكان واضحا أن عاصفة ستهب بعد قليل، وانتهز كل فرصة الهدوء الذي يسبقها وراح يعبئ نفسه ويستعد.
الأسطى شعبان جالس ومكسوف يرتب ما سوف يقوله وينتقيه، ويجرب بينه وبين نفسه كيف يقوله، وإبراهيم أفندي يدرك أن أحد أولاده لا بد هو الجاني وهو السبب في الدم الذي جف على منديل ابن شعبان، ولا بد أن امرأته كالعادة تولت علاج الأمر بطريقتها الفاسدة وأخفت عنه الحكاية ككل مرة، وتركته ليواجه المصيبة وحده، ومع هذا كان عليه أن يدفع أول الأمر ببراءة أولاده أجمعين، ويتحدث عن طيبتهم ويأتي بالبراهين على أنهم أولاد حلال مسالمون، فإن أفلتت البراءة كان عليه أن يتصيد الحجج ويقيم المعاذير، ويعد آخر الأمر بالعقاب الباتر.
والست شفاعات نسيت تماما أنها لم تترك أبا لهذا الرجل الجالس أمامها إلا ولعنته وطوقته بأبشع التهم منذ وقت قليل، واندفعت ترحب به، وفي نفس الوقت تعد ما سوف تقوله دفاعا عن ابنها، ثم ما سوف تقوله دفاعا عن نفسها أمام زوجها إن هو سألها كيف أخفت ما حدث، ولم تنس بطبيعة الحال أن تحسب حساب الضرورة القصوى وتعد نفسها لخناقة، وتعد لشعبان سربا طيبا من الشتائم يليق بوداعه. والأولاد قلوبهم كانت تدق؛ فالجاني لا بد منهم، وكل منهم فرح أنه ليس الجاني وأنه سيشهد لتوه محاكمة رائعة يلذ له حضورها كشاهد رؤية فقط وليس كمتهم.
غير أن أمل الأولاد خاب، فبعد قليل جلجل صوت أبيهم يأمرهم بالانسحاب، ويأمر زوجته بإزالة بقايا الطعام .
وجلجلة صوت أبيهم وإن كانت لا تحدث إلا نادرا، ولا تحدث إلا في حضرة أغراب إلا أنها أحيانا تخيف ويحسن طاعتها. ورفعت بقايا الطعام. ولم يكن قد تبقى سوى الصحون والملاعق، وللإنصاف بقيت أيضا حبات أرز قليلة دخلت في شقوق المائدة ولم تستطع أصابع الأطفال ولا حتى أظافر القطط أن تصل إليها.
وكان في نية إبراهيم أفندي أن يجلجل صوته مرة ثالثة، ويأمر زوجته بتركه مع الأسطى شعبان على انفراد لولا أنه شك في احتمال طاعته، فآثر السلامة، والاحتفاظ بكيانه سليما أمام الضيف، ولا تجرحه كلمة ولا زغرة ولا تعليق.
وهكذا وليبعدها، أمرها بلهجة رقيقة لطيفة، لا يقولها إلا زوج غارق في سعادة زوجية دائمة، أن تعد القهوة. وأصابته نظرة جانبية مدببة كطرف الإبرة أفهمته أن ليس لديهم بن.
وحينئذ افتعل إبراهيم أفندي ضحكة ما، وقال للأسطى شعبان وهو يخبطه فوق ركبته: والا تشرب شاي أحسن .. أنا عارف .. أنت تحب الشاي .. كل الأسطوات يحبوا الشاي .. خليه تقيل يا أم نعيمة.
وبينما كان الشاي يعد، كانت أم نعيمة لا تتركهما على انفراد أبدا، وكأن في الأمر مؤامرة، فهي غادية رائحة تنقل كرسيا من مكان إلى مكان، أو تسأل إبراهيم أفندي إن كان يريد شيئا وويله إن كان قد أراد شيئا.
وأخيرا آن الأوان وقال إبراهيم أفندي: خير؟
ناپیژندل شوی مخ