مقدمة الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد حمد الله المنعم بهدايته والصلاة على محمد خير خلقه وعلى آله وعترته.
فقد كانت دواعى الهمة ومبادى العزيمة تتقاضانى (1) الانتهاض للتقرب الى بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد بن عبد الله وآله وصحبه، ومن اتبعه فوالاه.
(وبعد) فقد رأيت-وأنا فى بيروت مدة اقامتى بها سنة 1304 من الهجرة-كتابا فى المنطق يسمى «البصائر النصيرية» للامام القاضى الزاهد زين الدين عمر بن سهلان الساوى، فنظرت فيه فاذا هو حاو مع اختصاره لما لم تحوه المطولات التى بأيدينا من المباحث المنطقية الحقيقية وخال مع كثرة مسائله من المناقشات الوهمية التى لا تليق بالمنطق وهو معيار العلوم من مثل ما نجده فى «المطالع» وشروحها و«سلم العلوم» وما كتب عليه. ووجدته على ترتيب حسن لم أعهده فيما وقفت عليه من كتب المتأخرين من بعد الشيخ الرئيس ابن سينا ومن فى طبقته من علماء هذا العلم.
فاستنسخت نسخة منه وبقيت عندى كغيرها من الكتب، الى أن حملنى النظر فيما يحتاج إليه طلبة العلم فى الجامع الازهر من الكتب التى تليق بالمتوسطين منهم على اعادة النظر فى الكتاب، فقرأته كلمة كلمة فزاد قيمته فى نفسى وعلت منزلته من رأيى، فعرضته على حضرة مولانا الاستاذ الاكبر شيخ الجامع الازهر، ومن حضر من أعضاء مجلس الادارة فأعجبوا به ورأوا: أنه من أفضل ما يهدى الى الجامع الازهر الشريف ليكون من الكتب التى تقرر دراستها فيه، على أن الكتاب وان كان جزل العبارة صحيح البيان الا ان فيه الفاظا وعبارات ومسائل اعتمد فى الاتيان بها على ما كان عليه اهل زمانه من درجة العرفان وهى اليوم تحتاج الى شيء من الشرح والايضاح.
فاستخرت الله تعالى فى وضع بعض تعاليق على ما رأيته محتاجا الى ذلك وأسأل الله أن ينفع به الطلاب ويجزل فيه الثواب.
مخ ۴۹
مجلس مولانا الاجل السيد نصير الدين ظهير الاسلام بهاء الدولة كافى الملك، عين خراسان «أبى القاسم محمود بن ابى توبة» زاده الله عظم القدر وحسن الذكر ونفاذ الامر بجمع كتاب فى بعض العلوم الحقيقية واهداء افضل ما تناله قوى البشر وتنتهى إليه غايات القدر (1) الى أفضل أكابر العالم وأجل من تسموا إليه اعناق العزائم. فينكث قوى العزم ويحل عرى الاجماع (2) الجزم، قصور باعى وضيق خطوى عن الانتهاض الى فضيلة من الفضائل العلمية لم يملك (3) زمامها ولم يحدر لثامها ولم تسبر اغوارها ولم تستبن ظلمها وانوارها.
والتقرب الى المستغنى عن جدوى القرب يشوه وجه الادب، الا اذا تداركه الاذن بالتحسين وتلقاه الرضى بحلى التزيين، فلا جرم صرفنى الحزم عن امضاء ما شارفه العزم، متطلعا لتأشير (4) الاذن الصادر عن حضرته الشريفة
مخ ۵۰
وسدته المنيفة الى ان اتصل بالخادم امره العالى بتحرير كتاب فى المنطق لا يرده الاختصار الى مضيق الاخلال، ولا ينهيه التطويل الى متسع الاملال.
فانتدبت لامتثال مرسومه (1) قوى العزيمة نافذ الصريمة وأوردت من المنطق ما لا يسع طالب العلوم الحقيقية الجهل به، مقتصرا على ابانة طريقى اكتساب التصور والتصديق الحقيقيين اللذين هما الحد والبرهان والهداية الى وجوه الغلط فيهما دون الجدل والخطابة والشعر التى هى عن افادة اليقين المحض بمعزل.
وسميته (البصائر النصيرية) تفاؤلا بيمن ألقابه وتوصلا إليه بأسبابه. (2) ولن يعرف قدر هذا الكتاب الا من طال نظره فى كتب المتقدمين بعين التأمل، فيجد فيه عند تصفحه إيضاح ما أغفلوه وتفصيل ما أجملوه وتنبيها على مواضع غلط يهم المتعلم التفطن لها عساها ذهبت عليهم والله المستعان وعليه التكلان، فى أن يعصمنا من الزلل والخلل فى القول والعمل. وهذا حين ما افتتح الكلام فيه بتقدم مقدمة مشتملة على فصلين: أحدهما فى ماهية المنطق وبيان الحاجة إليه ومنفعته، والآخر فى موضوعه.
مخ ۵۱
الفصل الأول فى ماهية المنطق ووجه الحاجة إليه ومنفعته
الانسان فى مبدأ الفطرة خال عن تحقق الأشياء، وقد اعطى آلات لا تعينه فى ذلك وهى الحواس الظاهرة والباطنة. فاذا احس بأمور جزئية تنبه لمشاركات بينها ومباينات ينتزع منها عقائد اولية صادقة لا يرتاب فيها عاقل ولا تزول بوجه ما مثل: ان الكل اعظم من الجزء، وان الاشياء المساوية لشيء واحد بعينه متساوية، وان الجسم الواحد لا يكون فى مكانين فى آن واحد، وعقائد أخر مساوية لهذه فى القوة كالحكم بأن كل موجود مشار إليه والى جهته، وان الأجسام اما لا تتناهى او تنتهى الى فضاء ممدود لا يتناهى لكنها كاذبة يستبان (1) كذبها بشهادة القضايا الأول كما سنبينه من بعد.
وقد يتردد فى امور بعد ادراك المحسات وانتزاع القضايا منها وقد لا يجد الى الحكم الجزم فى بعضها سبيلا وقد يجزم فى بعضها بتصرف فى هذه القضايا وتوصل منها إليه.
وهذا التصرف قد يكون تارة على وجه الصواب وتارة على وجه الخطأ ولا يشذ عن حكمنا هذا الا من ايد بحدس صائب وقوة إلهية تريه الاشياء كما هى وتغنيه عن الفكر.
فاذا انقسمت الاعتقادات الحاصلة للأكثر فى مبدأ الامر الى حق وباطل، وتصرفاتهم فيها الى صحيح وفاسد، دعت الحاجة الى اعداد قانون صناعى
مخ ۵۲
عاصم للذهن عن الزلل، مميز لصواب الرأى عن الخطاء فى العقائد، بحيث تتوافق العقول السليمة على صحة، وهذا هو المنطق.
وانما احتيج الى تمييز الصواب عن الخطأ فى العقائد للتوصل بها الى السعادة الأبدية، لأن سعادة الانسان من حيث هو انسان عاقل فى ان يعلم الخير والحق، أما الحق فلذاته واما الخير فللعمل به.
وقد تواترت شهادة العقول والشرائع على ان الوصول الى السعادة الأبدية بهما.
واذا كان نيل السعادة موقوفا على معرفة الحق والخير، والروية الانسانية قد يعتريها الزيغ والعدول عن نهج السداد فى السلوك الفكرى على الاكثر:
فربما اعتقد غير الحق حقا وما ليس بخير خيرا واستمرت على اعتقادها فحرم صاحبها السعادة الأبدية لما فاته من درك الحق والخير والتمييز بينهما وبين الباطل والشر وتخلف عن نيل النعيم الدائم فى جوار رب العالمين.
فاذن لا بد لطالب النجاة من الهدى الى وجه التمييز بين الحق والباطل والخير والشر والطريق إليه بمعرفة «القانون الصناعى» الذي يقيه الغلط فى صواب النظر، واذا حقت الحاجة إليه فنشرح وجه غايته ومنفعته زيادة شرح فنقول:
الحاجة الى المنطق لدرك المجهولات، والمجهولات اما أن يطلب تصورها فقط او يطلب التصديق بالواجب فيها من نفى او اثبات. والتصور هو حصول صورة شيء ما فى الذهن فقط، مثل ما اذا كان له اسم فنطق به تمثل معناه فى الذهن مثل تمثل معنى المثلث او الانسان فى الذهن، دون ان يقترن به حكم بوجودهما او عدمهما او وجود حالة او عدمها لهما.
فانا قد نشك فى وجود شيء او عدمه، فيحصل فى ذهننا المعنى المفهوم من لفظه.
واما التصديق فهو حكم الذهن بين معنيين متصورين: بأن أحدهما الآخر
مخ ۵۳
أو ليس الآخر، واعتقاده صدق ذلك الحكم اى مطابقة هذا المتصور فى الذهن للوجود الخارجى عن الذهن، كما اذا قيل الاثنان نصف الأربعة فصدقت كان ذلك حكما منك بأن الاثنين فى نفسه نصف الاربعة كما حصل فى ذهنك.
وكل تصديق فيتقدمه تصوران لا محالة وربما يزيد عليه كما فى قولنا:
«الاثنان نصف الاربعة» ، فان فيه ثلاث تصورات تصور «الاثنين» و«النصف» و«الأربعة» . ولكن الزيادة على تصورين غير واجبة، واما التصور فقد لا يفتقر الى تقدم التصديق عليه فلذلك يسمى العلم الأول.
وبعض هذه المجهولات قد يكفى فى دركه تذكره واخطاره بالبال، فاذا اخطر تنبه له فهو مجهول اذ ليس حاضرا فى الذهن ولا به علم بالفعل بل بالقوة، واكثرها لا يكفى فيه التذكر بل انما تدرك بمعلومات سابقة عليها وترتيب لها مخصوص لأجله يتأدى الى العلم بهذا المجهول.
ولكل مجهول معلومات تناسبه: فلمجهول التصور معلومات تصورية، ولمجهول التصديق معلومات تصديقية.
وتلك المعلومات اما ان تكون حاصلة بالفطرة من غير تقدم معلوم هو سبب حصولها عليها (1) ، أو حاصلة بمعلومات أخر سابقة عليها ولكن لا تتسلسل بل تنتهى لا محالة الى معلومات حاصلة بالفطرة.
فالمنطقى مدفوع الى النظر فى تلك المعلومات وكيفية تأليفها وتأديها الى هذه المجهولات المطلوبة.
وقد جرت العادة بأن يسمى الأمر المؤلف من معلومات خاصة على هيئة خاصة مؤدية الى التصور «قولا شارحا» ، فمنه حد ومنه رسم. والمؤلف من معلومات خاصة على هيئة خاصة ليؤدى الى التصديق «حجة» فمنه قياس و
مخ ۵۴
منه استقراء وغيرهما.
وقد يقع الخلل فى كل واحد من الأمرين اعنى: القول الشارح والحجة تارة من جهة المعلومات التى منها التأليف وتارة من «جهة» تأليفها وتارة من جهتيهما.
فقصارى المنطق أن يعرفنا المعلومات المناسبة لمطلوب مطلوب وهيئة تأليفها المؤدية إليه وانواع الخلل الواقع فيها.
فيحصل لنا العلم بالحد الحقيقى الذي يفيد تصور «ماهية الشيء» وبالشبيه به القريب منه الذي يسمى «رسما» والفاسد الذي لا فائدة فى معرفته الا اجتنابه.
وكذا يحصل علمنا بالقياس البرهانى الذي يفيد التصديق الحقيقى بالشيء وبالقريب منه الذي يسمى قياسا جدليا، والبعيد عنه الذي يسمى خطابيا والفاسد الذي يسمى مغالطيا ونعرف ذلك لكى يجتنب.
والمخيل يسمى شعريا وهو الذي لا يوقع تصديقا البتة بل تخييلا، يؤثر أثر التصديق فيما يرغب فيه أو ينفر عنه.
وربما يسأل فيقال: ان تعرف المجهولات من المعلومات بالفكر العقلى مفتقر الى «قانون صناعى» يقايس به، فهذا القانون فى نفسه من جملة الاوليات البينة المستغنية عن الفكر او من جملة المعلومات الفكرية المفتقرة الى قانون. فان كان من القبيل الأول فليستغن عن تعلمه، وان كان من القبيل الثانى فليفتقر الى نفسه ويشترط فى تعلمه تقدم العلم به وهو محال.
فجوابه ان درك العلوم منه ما هو بطريق استفادتها من معلومات سابقة عليها وترتيب لها خاص، ومنه ما هو على سبيل التذكير والتنبيه كما سبق.
والاول منه ما هو متسق منتظم يسهل التدريج فيه من الأوائل الى الثوانى والثوالث ولا يعرض فيه الغلط الا نادرا كالعلوم الهندسية والعددية ومنه ما ليس له اتساق يؤمن الغلط فيه كالعلوم الالهية. غ
مخ ۵۵
والامور المتعلمة فى المنطق منها ما هو على سبيل التذكير والتنبيه الذي لا يحتاج فيه الى قانون متقدم عليه، ومنها ما هو على سبيل الوضع والتسليم كاكثر ما فى قاطيغورياس (1) ومنها ما هو على سبيل الاحتجاج واستفادة المجهول من المعلوم وما كان من هذا القسم فهو من القبيل المتسق المنتظم المأمون وقوع الغلط فيه.
والخلاف الجارى فى المنطق بين أربابه انما هو بسبب الألفاظ المشتركة وذهاب كل فريق الى معنى منه ولو قدر اتفاقهم على معنى له واحد لما اختلفوا.
فهذا القدر كاف فى بيان ماهية المنطق ووجه الحاجة إليه ومنفعته، ثم المنطق انما يفيد الفائدة المطلوبة منه اذا ارتاض الانسان باستعمال هذه القوانين المتعلمة فيه، وأما معرفتها دون تعود استعمالها والارتياض بها فقليلة الغناء (2) والفائدة.
مخ ۵۶
الفصل الثانى فى موضوع المنطق
موضوع كل علم هو الشيء الذي يبحث فى ذلك العلم عن أحواله التى تعرض له لذاته وتسمى تلك الأحوال اعراضا ذاتية وستعرفها (1) . ولما تبين أن منفعة المنطق وقصاراه تعريف القول الشارح والحجة مطلقا، أى على وجه كلى قانونى عام غير مخصص بشيء دون شيء، اذا عرف كذلك استغنى عن استئناف تعلم حد حد وبرهان برهان بل انطبق حكمه المجرد عن المواد الخاصة على جميع الحدود والبراهين الخاصة، فموضوع نظره اذن المعانى التى هى مواد القول الشارح والحجة المطلقين من حيث هى مستعدة للتأليف المؤدى الى تحصيل أمر فى الذهن.
وهذه المعانى هى «المعقولات الثانية» ومعنى قولنا «الثانية» : هو أن ذهن الانسان تحصل فيه صور الاشياء الموجودة خارج الذهن وماهياتها، ثم الذهن قد يتصرف فيها بأن يحكم ببعضها على بعض ويلحق ببعضها أمورا ليست منها ويجرد بعضها عن عوارض خارجة عن حقيقتها.
فتصرف الذهن بجعل البعض حكما والبعض محكوما عليه.
والتجريد والالحاق أحوال تعرض لهذه الماهيات الموجودة فى الذهن، فالماهيات «معقولات أولى» وهذه الاحوال العارضة لها بعد حصولها فى الذهن «معقولات ثانية» وهى كون الماهيات محمولات وموضوعات وكليات وجزئيات الى غير ذلك مما تعرفه.
فاذا موضوع المنطق هذه المعقولات الثانية من حيث هى مؤدية الى
مخ ۵۷
تحصيل علم لم يكن.
وأما المعقولات الا ولى فانما ينظر فيها اذا حاول ان يطبق هذا القانون المتعلم على الحدود والبراهين الخاصة ويحاذيها بها، فحينئذ يلتفت الى هذه المعقولات الاولى التى هى ماهيات الاشياء الموجودة مثل كونها جواهر وكميات وكيفيات وغير ذلك مما هى أجناس الامور الموجودة كما ستعرفها.
هذا اذا تعلم الانسان المنطق بفكرة ساذجة مع نفسه دون الاستعانة بمعلم يخاطبه ويحاوره لو أمكن، أما اذا جرى التعليم فيه على سبيل المخاطبة والمحاورة ولم يكن ذلك الا بألفاظ، صارت الالفاظ أيضا منظورا فيها بالضرورة خصوصا وفكر الانسان فى ترتيب المعانى قلما ينفك عن تخيل ألفاظها معها حتى كأن الانسان يناجى نفسه بألفاظ متخيلة اذا أخذ فى التروى والتفكر.
ثم المعانى والالفاظ التى هى مواد الاقوال الشارحة والحجج مؤلفة، ولا يحصل العلم بالمؤلف الا بعد الإحاطة بمفرداته لا من كل وجه بل من حيث هى مستعدة للتأليف.
فلا جرم وجب علينا أن نعرف أحوال الالفاظ المفردة والمعانى المفردة من هذه الجهة أولا ثم نعقبه بتعريف القول الشارح المفيد للتصور، اذا التصور سابق على التصديق طبعا فيستحق التقديم وضعا.
ونقدم على هذا التعريف ما يحتاج (1) إليه القول الشارح من التأليف، ثم نتبعه (2) بتعريف الحجج على أصنافها تقديما لانواع التأليف الواقعة فيها.
مخ ۵۸
فيشتمل كتابنا لهذا الوجه على ثلاث مقالات:
الا ولى فى المفردات.
والثانية فى الاقوال الشارحة الموصلة الى التصور.
والثالثة فى الاقوال الموصلة الى التصديق.
مخ ۵۹
المقالة الاولى فى المفردات وتشتمل على فنين
الفن الاول فى الالفاظ الكلية الخمسة ويشتمل على عشرة فصول
الفصل الأول فى دلالة اللفظ على المعنى
قد بينا أن نظر المنطقى فى المعانى ولكنه اذا اقتصر فى البحث عن الالفاظ وأحوالها وأقسامها على ما تدعوه الضرورة الى النظر فيها بسبب ما بين اللفظ والمعنى من العلاقة-اغناه ذلك عن استئناف تعرف احوال المعانى وأقسامها، اذ الالفاظ تحذو حذو المعانى، فنقول:
دلالة الألفاظ على المعانى من ثلاثة اوجه:
الاول- دلالة المطابقة وهى دلالة اللفظ على المعنى الذي وضع له، مثل دلالة الانسان على الحيوان الناطق ودلالة البيت على مجموع الجدار والسقف.
الثانى- دلالة التضمن وهى دلالته على جزء من اجزاء المعنى المطابق له كدلالة الانسان على الحيوان وحده او على الناطق وحده وكدلالة البيت على الجدار أو السقف.
الثالث- دلالة الالتزام والاستتباع وهى أن يدل اللفظ على ما يطابقه من المعنى، ثم ذلك المعنى يلزمه أمر آخر، لا أن يكون جزأ له بل صاحبا ورفيقا ملازما فيشعر الذهن بذلك اللازم مثل دلالة السقف على الجدار والمخلوق على الخالق والثلاثة على الفردية والإنسان على الضحاك والمستعد للعلم.
وكأن هذا ليس دلالة لفظية بل انتقال الذهن من المعنى الذي دل عليه اللفظ بالوضع الى معنى آخر، ملاصق له قريب منه والمستعمل فى العلوم هى دلالة المطابقة والتضمن لا دلالة الالتزام فانها غير منحصرة، اذ اللوازم قد يكون لها لوازم وهكذا الى غير نهاية.
مخ ۶۰
الفصل الثانى فى اللفظ المفرد والمركب
اللفظ المفرد هو الذي يدل على معنى ولا يدل جزء منه على شيء أصلا، حين هو جزؤه مثل قولنا: «انسان» فان جزأ منه-وليكن «ان» مثلا أو «سان» - لا يدل على جزء من معنى انسان ولا على شيء خارج عن معناه حين جعل جزء لفظ انسان.
وكذلك عبد الله اذا جعل اسم لقب لا نعتا له باضافته الى الله تعالى بالعبودية، فان جزأ منه حينئذ لا يدل على شيء أصلا وصار هذا الاسم فى حقه كالمشترك، تارة تطلق لقصد التعريف فيكون اسما مفردا وتارة يراد للوصف فيكون مركبا.
ومن أوجب فى هذا الحد زيادة تخصيص-وهى أن لا يدل.
جزء منه على جزء من معنى (1) الجملة لاعتقاده أن بعض أجزاء الالفاظ المفردة ربما دلت على معانى غير أجزاء الجملة ك «عبد» مثلا من عبد الله أو «ان» -من انسان فان كل واحد منها دال على شيء وان لم يكن جزء معنى الجملة- فقد أخطأ، لأن دلالة اللفظ على المعنى ليست لذات اللفظ بل بالوضع.
والاصطلاح فتكون دلالتها تابعة لقصد المتلفظ وليس يقصد المتلفظ ولا الواضع بوضعه أن يدل بجزء المفرد على شيء أصلا حينما يجعله جزأ، فلا تكون له دلالة حينئذ البتة.
مخ ۶۱
وأما المركب فهو الذي يوجد لمسموعه أجزاء دالة على أجزاء المعنى المراد بالجملة كقولك: «العالم حادث والحيوان ناطق وغلام زيد» ، وستأتى تفاصيله فى المقالة الثالثة .
مخ ۶۲
الفصل الثالث فى الكلى والجزئى
اللفظ المفرد الكلى هو الذي معناه الواحد فى الذهن، يصلح لاشتراك كثيرين فيه كالانسان والحيوان، بل الكرة المحيطة بمتسع متساوى الاضلاع، بل (1) الشمس والقمر فانهما كليان وان امتنعت الكثرة فيهما فى الوجود لكن امتناع الكثرة لم يكن لعدم صلاحية معناهما للاشتراك بل لمانع خارج.
وقد اعتقد بعضهم أن لفظة الشمس انما كانت كلية بالنسبة الى شموس كثيرة متوهمة، فان أراد بهذا أن اللفظ لا يكون كليا ما لم تتوهم شموس كثيرة تشترك فى معناه حتى اذا لم تتوهم وعدمت الكثرة الوهمية لم يكن اللفظ كليا فليس كذلك بل اللفظ كلى وان لم تتمثل فى الذهن شموس كثيرة تشترك فى معنى هذا اللفظ لان كليته بسبب صلاحيته لاشتراك الكثرة فيه لو كانت وان لم توجد الكثرة لا فى الذهن ولا خارج الذهن.
والجزئى هو الذي معناه الواحد لا يصلح لاشتراك كثيرين فيه البتة مثل «زيد» اذا اريد به هذا المشار إليه جملة لا صفة من صفاته فان المفهوم منه لا يصلح البته للشركة.
فالفرق بين زيد والشمس مع امتناع الكثرة فيهما فى الوجود هو أنه: يمكن ان تتوهم شموس كثيرة يصح وقوع لفظ الشمس عليها بالسوية فصلاحية
مخ ۶۳
الشركة ثابتة مهما وجدت «الكثرة الوهمية» ولا يمكن توهم اشخاص كثيرة كل واحد منهم «زيد» بعينه، فليس اذن لمعنى هذا اللفظ صلاحية الشركة بحال.
وهذا الفرق انما هو بين زيد والشمس، أما هذه الشمس وهذا الرجل فجزئى كلفظ «زيد» وكذا كل ما اقترنت به الاشارة.
والجزئى يستعمل بمعنى آخر وهو أن كل واحد من المشتركات فى معنى الكلى يقال له جزئى بالإضافة الى الكلى والجزئى بهذا المعنى يغاير الاول من وجهين:
أحدهما أنه بهذا المعنى مضاف الى الكلى وبالاول غير مضاف.
والثانى أن الجزئى بهذا المعنى قد يكون كليا كالانسان فانه جزئى الحيوان ومع ذلك هو كلى وأما بالمعنى الآخر فلا يكون البتة كليا.
واعلم أنا لا نشتغل بالبحث عن أحوال الجزئى بالمعنى الاول، لأن الجزئيات غير متناهية ولو كانت متناهية أيضا مثلا ما كنا نستفيد بادراكها ما نطلبه من الكمال العقلى لان ادراكها لا يكون الا حسيا أو خياليا لا عقليا.
مخ ۶۴
الفصل الرابع فى الموضوع والمحمول
اذا حكمنا بشيء على شيء فقلنا انه كذا فالمحكوم به يقال له المحمول والمحكوم عليه يقال له الموضوع.
وليس من شرط المحمول أن يكون معناه معنى ما حمل عليه أى الموضوع اذ لو كان كذلك لم يصح الحمل الا فى الاسماء المترادفة وهى الالفاظ المختلفة الموضوعة لمعنى واحد مثل قولنا: الانسان بشر.
بل من شرطه أن يكون الحمل صادقا وان لم تكن حقيقة المحمول حقيقة ما حمل عليه فاذا قلنا: «الانسان ضحاك» فلا نعنى به أن حقيقة الانسان حقيقة الضحاك بل نعنى أن الشيء الذي هو انسان وله صفة الانسانية هو أيضا ضحاك وله صفة الضحاكية، سواء كانت حقيقته فى نفس المحمول أو الموضوع أو أمرا ثالثا غيرهما.
أما ما حقيقته الموضوع فمثل قولك: «الانسان ضحاك» وأما ما حقيقته المحمول فمثل قولك: «الضحاك انسان» فان الشيء الذي هو الضحاك حقيقته الانسانية.
وأما ما حقيقته ثالث غيرهما فمثل قولك: «الضحاك كاتب» فان حقيقة الشيء الذي يقال له الضحاك والكاتب هو الانسان لا الضحاك والكاتب.
والغرض من هذا الفصل هو أن المحمول يكتفى بكونه صادقا على الموضوع ولا يطلب أن تكون حقيقته حقيقة الموضوع.
وأما هذه الاقسام الثلاثة التى ذكرناها، فتعرفها بعد فصول نوردها لك ان شاء الله تعالى.
مخ ۶۵
الفصل الخامس فى قسمة الكلى الى الذاتى والعرضى
اذا عرفت أن الكلى المحمول على الشيء قد يكون حقيقة الشيء وقد يكون أمرا آخر وراء حقيقته، فلنبين أقسامه على التفصيل، فنقول:
اللفظ المحمول اما ان يكون دالا على حقيقة الشيء أو على صفة له واعنى بالصفة ما هو كالجسم والا بيض بالنسبة الى الانسان لا كالبياض والجسمية.
فان مثل البياض لا يكون محمولا على الانسان الا بالاشتقاق-أى يشتق منه-له اسم كالابيض ويحمل عليه كما سنبين بعد.
والصفة المحمولة اما أن تكون داخلة فى ذاته يلتئم منها ومن غيرها ذات الشيء وتسمى مقومة ذاتية، أولا تكون داخلة فى ذاته بل توجد بعده (1) وتسمى عرضية. فمنها ما يلزم الذات ويخص باسم العرضى اللازم وان كان المقوم أيضا لازما ومنها لا يفارق ويسمى العرضى المفارق.
فالمحمولات هى هذه: الدال على الماهية والذاتى المقوم والعرضى اللازم والعرضى المفارق، ولنعرف كل واحد منها ثم لنبين أن الدال على الماهية هل هو مندرج تحت الذاتى بحيث يكون الذاتى عاما له ولغيره أم هو خارج عنه لا يطلق عليه اسمه.
مخ ۶۶
الفصل السادس فى تعريف الذاتى
الذاتى هو الذي يفتقر إليه الشيء فى ذاته وماهيته مثل الحيوان للانسان، فان الانسان لا يتحقق فى ماهيته الا أن يكون حيوانا، وكذا البياض لا يتحقق فى نفسه الا أن يكون لونا.
وأما ما يفتقر إليه الشيء فى وجوده لا فى ماهيته ليس بذاتى، مثل كون الجسم متناهيا وكون الانسان مولودا فان الجسم لا يفتقر فى جسميته الى أن يكون متناهيا ولا الانسان فى انسانيته الى أن يكون مولودا ولذلك يمكن أن يسلب التناهى والولادة عن الجسم والانسان فى التصور، فيتصور جسم غير متناه وانسان غير مولود ولا يمكن أن يتصور انسان ليس بحيوان.
وهذا وان لم يكن فرقا عاما بين الذاتى وما ليس بذاتى فان مما ليس بذاتى ما يمتنع سلبه عن الشيء لكنه فرق بين هذه الأمثلة.
وقد قنع بعضهم بهذا القدر فى تعريف الذاتى فقال: الذاتى هو الذي لا يمكن رفعه عن الشيء وجودا وتوهما وهذا غير كاف فى تمييز الذاتى عن غيره فان من اللوازم ما لا واسطة بينه وبين الشيء بل يلزمه لذاته كما تعرفه ومثل هذا يمتنع رفعه عن ملزومه مع استثبات (1) الملزوم وجودا ووهما.
فاذن الذاتى مختص بزيادة على هذا القدر، وهى أنه مع كونه معقولا للشىء ممتنع الرفع عنه يسبق تصوره على تصور ما هو ذاتى (2) له.
غ
مخ ۶۷
وبيان هذا: أن كل شيء له ماهية ملتئمة من أجزاء، فانما توجد فى الاعيان اذا كانت أجزاؤها موجودة حاضرة معها وحضور أجزائها هو وجودها أولا وبقاؤها ما دام الشيء باقيا واذا لم توجد فى الأعيان الا على هذا الوجه-وهذا هو تقدم الأجزاء عليه تقدما بالذات لا بالزمان-فكذلك لا توجد فى الاذهان الا على وفق وجودها فى الأعيان، اذ العلم صورة فى الذهن مطابقة للامر الموجود فتكون الأجزاء سابقة فى التصور كما هى فى الوجود.
فاذا أخطرت الماهية بالبال وأخطرت أجزاؤها التى التأمت منها. لم يمكن أن تعقل الماهية الا وتكون أجزاؤها معقولة أولا، مثل الحيوان والناطق اللذين هما داخلان فى ماهية الانسان فلا يمكن أن يعقل الانسان الا وقد عقل أولا الحيوان والناطق.
نعم ربما لم يكونا مفصلين فى الذهن وليس كل ما لا يكون مفصلا لا يكون معلوما، فكثير من المعلومات ليس مفصلا.
وأما اللوازم فلا يسبق تصورها على تصور الشيء بل اذا تم تصور الشيء تصور لزومها تابعة اياه فى الوجود أو الماهية.
فللذاتى أوصاف ثلاثة يشاركه بعض اللوازم فى اثنين منها:
الأول- أن الذاتى اذا أخطر بالبال وأخطر ما الذاتى ذاتى له بالبال علم وجود الذاتى له لا محالة، بحيث يمتنع سلبه عنه وبعض اللوازم أيضا كذلك.
والثانى- أن الذاتى متقدم فى التصور على ما هو ذاتى له وهذا هو الوصف الذي لا يشاركه فيه شيء من اللوازم، وهى الخاصة التى لا يشاركه فيها شيء من اللوازم.
والثالث- أن لا يكون مستفادا للشيء من غيره فليس الانسان حيوانا لعلة جعلته حيوانا بل لذاته هو حيوان، اذ لو كان لعلة لأمكن فرضه انسانا غير حيوان عند فرض عدم العلة وليس هذا مصيرا الى أن الحيوان وجد لذاته من غير علة أوجدته كلا بل المراد ان شيئا ما لم يجعل الانسان حيوانا، نعم الذي
مخ ۶۸