عصر برنارد شو
نشأته
مؤلفاته
شو والعلم
شو والفن
فلسفته
أحاديثه
وسائل السوبرمان
أقوال الناس فيه وأقواله في الناس
شو ومصر
ناپیژندل شوی مخ
صورة مجملة
عصر برنارد شو
نشأته
مؤلفاته
شو والعلم
شو والفن
فلسفته
أحاديثه
وسائل السوبرمان
أقوال الناس فيه وأقواله في الناس
ناپیژندل شوی مخ
شو ومصر
صورة مجملة
برنارد شو
برنارد شو
تأليف
عباس محمود العقاد
صورة تمثاله.
عصر برنارد شو
في هذه الرسالة تعريف وجيز بالكاتب الأيرلندي، الإنجليزي، العالمي، جورج برنارد شو.
والكاتب قد يسبق عصره في أشياء، وقد يتخلف عنه في أشياء، وقد يخالفه في أشياء، ولكنه لا ينفصل عنه كل الانفصال في جميع الأشياء. فلا بد بين الكاتب والعصر الذي ينشأ فيه من صلة نعرفها لتمام التعريف به والاستدلال على مصادر أدبه وقواعد تفكيره.
ناپیژندل شوی مخ
وقد نشأ برنارد شو في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، وهو عهد كثير المعالم كثير الأطوار في ميادين الحياة العامة، ولكنه يتسم في كل ميدان منها بسمة ظاهرة تحيط بما حولها أو تدل عليه، وفي هذه السمات الظاهرة ما يكفي لتصوير «البطانة الثقافية» التي ارتبطت بها نشأة شو، وارتبطت بها - من ثم - مصادر أدبه وقواعد تفكيره.
في ميدان العلم الطبيعي غلبت فكرة التطور بمذاهبها المتعددة، وأهمها مذهب لامارك ومذهب داروين.
وفي ميدان الأخلاق غلبت مباحث الدراسات النفسية، وتطبيقها على المسائل الاجتماعية كالجريمة وروح الاجتماع، وعلى المسائل الجنسية كطبيعة المرأة وتفسير الأخلاق عامة بغرائز الجنس الظاهرة والخفية.
وفي ميدان السياسة والاجتماع غلبت الدعوة إلى الحرية عامة وإلى الحرية الفردية على الخصوص. •••
نشأ برنارد شو والعالم الأوروبي كله يجادل ويساجل في مذاهب التطور والارتقاء، وأهمها كما تقدم مذهب لامارك الذي يقول بدفعة الحياة، ومذهب داروين الذي يقول بالانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح.
والفرق بينهما أن الأول أقرب إلى الإيجاب والثاني أقرب إلى السلب، فمذهب لامارك يفسر طول عنق الزرافة بأنها جمعت قواها كلها في عنقها؛ فطال وتمكنت به من بلوغ الأوراق الطرية في ذؤابات الشجر، ولولا ذلك لحل بها الفناء.
ومذهب دارون يفسر طول عنقها بالتفاوت بين الزرافات في طول العنق، فما كان منها طويل العنق أدرك الورق العالي فعاش وبقيت ذريته، وما كان منها قصير العنق فاته الطعام فانقرض ولم تبق له ذرية.
وقد كان لفكرة التطور على اختلاف مذاهبه أثر قوي واضح في دعوات المفكرين والفلاسفة، وأخطأ بعضهم فهمه - كما أخطأ نيتشه - فظن أن القرد ترقى إلى الإنسان، وأن الإنسان سيترقى على هذا النحو إلى السوبرمان، ومعناه الإنسان الأعلى! وأن النسبة بين هذا السوبرمان والإنسان الحاضر ستزيد على النسبة بين الناس والقردة في تركيب الأجسام أو تركيب العقول.
وتطرقت فكرة التطور إلى أشهر المذاهب الفلسفية في فرنسا خلال السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر، وهو مذهب برجسون الذي يتلخص في كلمتين، هما: التطور الخلاق، وخلاصته أن قوة الحياة تتطور في علاقتها بالأجسام المادية حتى يأتي زمن لا يستبعد فيه استقلال «الفكر الحي» عن المادة وأجسادها وأعضائها، فامتزجت نظرية التطور بالفلسفة المثالية الفكرية في مذهب برجسون على هذا المنوال.
ولم يبق في إنجلترا والولايات المتحدة عالم ولا أديب ولا فيلسوف لم تدخل نظرية التطور في تقديره، ولا يزال أثرها كبيرا ظاهرا في فلسفة مورجان، وفلسفة صمويل إسكندر، وفلسفة هوايتهد، وغيرهم من أصحاب مذاهب التطور والانبثاق، عدا ما كان لها من الشأن الشامل في تفسير جميع العلل الكونية على طريقة هربرت سبنسر على الخصوص.
ناپیژندل شوی مخ
أما الدراسات النفسية «السيكولوجية»، فقد أسرعت في اتخاذ طريقها إلى الأدب وإلى فن الرواية بصفة خاصة، فكاد كل بطل من أبطال الروايات أن يصبح نموذجا لدراسة نفسية، وذاع هذا الأسلوب الروائي من روسيا حيث كان يكتب دستيفسكي، إلى فرنسا حيث كان يكتب بورجيه، إلى النرويج حيث كان أبسن ينظم ملاحمه ومسرحياته.
ولم يبق نوع من الناس - آحادا وجماعات - إلا تناوله البحث من ناحية نفسية، فكتب العلماء والمفكرون والأدباء عن: نفسية المجرم، ونفسية الجماعة، ونفسية العبقري، ونفسية السادة والعبيد، وأعاد النقاد تحليل «الشخصيات الأدبية والفنية» على هذا النمط الحديث، وكانت الغريزة الجنسية أهم ما تناوله البحث، واقترن به تعليل الأخلاق والبواعث، بل تعليل الحركات الفنية والاجتماعية، وخرجت «المرأة» خاصة من هذه المشرحة بتكوين جديد يختلف فيه معنى الغواية، ومعنى الخطيئة، ومعنى الرذيلة عما كان عليه في «تكوينها» الذي عرفه أبناء العصور الوسطى، وأبناء العصور الغابرة على الإجمال.
ويمكن أن يقال إن النصف الأخير من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين كانا في مجال الدراسات النفسية عصر لمبروزو وأتباعه من جهة، وعصر فرويد وأتباعه من جهة أخرى، فأصبح للدوافع العقلية كالعبقرية، والدوافع الحيوية كالحب، تفسير غير تفسيرها في آراء الأقدمين. •••
وظهرت في هذه الفترة دعوات سياسية، أو دعوات اجتماعية، تنزع كلها إلى التحرير وتحطيم القيود، ولا سيما القيود التي تطلق «الفرد» من ربقة العرف، أو ربقة السادة المستأثرين بحقوق المجتمع ومزاياه.
ونحن في هذا العصر نفرق بين الدعوة إلى الشيوعية والدعوة إلى الحرية الفردية؛ لأنهما يتعارضان في تقدير حق الفرد بجانب حق الحكومة.
إلا أن الشيوعية نفسها كانت تحسب في أواسط القرن التاسع عشر من حركات الدعوة إلى الحرية الفردية وإنقاذ الآحاد من طغيان الجماعات؛ لأن خطوتها الأولى كانت تستلزم إنكار الامتيازات التي يستأثر بها أبناء بعض الطبقات، فهي تسوية بين آحاد وآحاد، واتجاه إلى المساواة العامة في الحقوق السياسية، يتلاحق فيه الفرد الوضيع والفرد الرفيع. •••
ومع اختلاف هذه الميادين - ميادين العلوم، وميادين الأخلاق، وميادين السياسة - كانت النزعات الغالبة عليها جميعا مما يتجه بالذهن الإنساني إلى وجهة واحدة، وهي إعادة النظر في القيم المسلمة على العموم.
ما قيمة الإنسان؟ ما قيمة العرف؟ ما قيمة السلطة؟ ما قيمة النظم القائمة؟ ما قيمة الحقوق المحترمة؟ ما قيمة البطل؟ ما قيمة المرأة؟ ما قيمة المصطلحات والمعارف والآراء؟
فاتسع في الجواب عن هذه الأسئلة مجال السخرية كما اتسع مجال الأمل، وعمت الرغبة في التجديد والابتداع حتى بلغت حد الإغراب والاصطناع.
وسيرى القراء أن برنارد شو لم يكن بعيدا من آثار هذه النزعات في أدبه وتفكيره، وقد تناول بهما مذاهب العلم والفن، كما تناول بهما مذاهب السياسة والأخلاق والاجتماع.
ناپیژندل شوی مخ
نشأته
تكاد كل علاقة بين شو ومنشئه تأتي مصداقا للحقيقة التي ألمعنا إليها في تصدير هذه الرسالة، وهي الصلة الوثيقة بين البيئة والأديب أو الفنان.
فنشأته في أيرلندا، ونشأته في أسرته، ونشأته من أبويه، ونشأته في جيله السياسي، ونشأته في جيله الثقافي؛ كل أولئك على صلة وثيقة بعنصر من عناصر حياته، أو عنصر من عناصر استعداده وعمله في حياته الفنية والثقافية.
قال عن تلك النشأة: «لا أثر في تكويني من العنصر الإسباني الشمالي الذي استورد كما تستورد السلع، وجرى العرف على اعتباره أصلا عريقا للأيرلنديين. إنني أيرلندي مثالي من عناصر الزحوف الدانية والنورمانية والكرمولية، والأيقوسية على الخصوص، وأنا بحكم التقاليد البيتية فخور بالمذهب البروتستانتي، شديد التشيع إليه، ولكن لا تعتمدن حكومة إنجليزية من أجل ذلك على ولائي، فإن الإنجليزية التي أشتمل عليها تكفي لأن تجعل مني جمهوريا لدودا، ومطالبا عنيدا بالحكومة الذاتية. وصحيح أن جدي الأعلى كان من الأورنجيين، ولكن صحيح كذلك أن أخته كانت رئيسة دير، وأن عمه - وأقولها فخورا - شنق مع الثائرين.»
ولو أراد شو لقال أيضا إن الأيرلندية التي اشتمل عليها كافية لأن تجعل منه مفكرا «عالميا» يثور على السيطرة الأجنبية، فإن الوطنية التي تثور على الاستعمار والاستغلال قريبة من العالمية في المبدأ والاتجاه.
والأيرلنديون - أو الأمة التي امتزجت من بعض السلالات فأصبحت تعرف بهذا العنوان - قوم معروفون بالدأب في طلب الرزق، ونزعة التمرد مع حب الفكاهة. ألجأهم الحكم الأجنبي إلى التمرد، وألجأهم التمرد والفقر إلى الرحلة في طلب الرزق، والكدح وراء المال، وأعانتهم الفكاهة على الضنك والسلطان المكروه، فليس أصلح من هذه البيئة لإخراج برنارد شو المتمرد الساخر الدءوب المؤمن برسالة المال في حياة الآحاد وحياة الجماعات.
وانتماء شو في أصله القديم إلى سلالة «إنجليزية» لا يخرجه من حكم النشأة الأيرلندية، حتى في الثورة على السيطرة الإنجليزية.
والمصريون خاصة خلقاء، أن يذكروا في هذا الصدد أن طلاب الاستقلال في مصر كان الكثيرون منهم ينتمون إلى سلالة الترك الذين كانوا يحكمون البلاد.
ويرجع شو بأصله إلى «ماكدوف» المعروف في رواية «ماكبث» من تأليف شكسبير.
ولكن لا خلاف في انتمائه من جانب أبيه وجانب أمه إلى فرسان العصور الوسطى، وقد تزوجت حفيدة كرومويل بواحد من أسرة شو، وكان أحدهم «السير روبرت شو» صاحب مصرف في دبلن عند أوائل القرن التاسع عشر، ثم تغيرت بهم الحال كما تغيرت بكثير من سلالة الفرسان الذين لم يحسنوا الاحتفاظ بالثروة القديمة، ولم يحسنوا جمع الثروة من مواردها في العصر الحديث.
ناپیژندل شوی مخ
فلما آل أمر الأسرة إلى أبيه - جورج كار شو - كان من فقراء أبناء النبلاء، وكان في صباه يعمل في مصنع للحديد، ثم وصل بنفوذ آله إلى وظيفة حكومية، ثم باع معاش الوظيفة بعد إلغائها، واشترك مع صاحب له في إدارة متجر لم يلبث أن أفلس، ولم يترك له غير مورد صغير يعول عليه في معاشه ومعاش بيته.
وكان يعاقر الخمر، ويتشاغل عن الجد باللهو، ويهرب من الهموم والأزمات، ويتقي مواطن الحسم ما استطاع.
فلما علم بإفلاسه أوى إلى حجرة معزولة، وظل يضحك ويستغرق في الضحك والقهقهة حتى أفاق من تلك الصدمة القاسية، وخرج من الحجرة كأنه لم يسمع بشيء.
وكان عجبا في رعايته للتقاليد واستخفافه بالتقاليد، فكان يجمع أسرته للصلاة ويقرأ لهم في التوراة، ثم لا يلبث أن يلقي بالكتاب من يده ويقول كأنما يخاطب نفسه: «كلام فارغ ... كلام فارغ» ... ويقطع الصلاة والقراءة ليعود إليهما بعد يوم أو يومين.
وكان يعزو سوء حظه إلى سبب «خرافي» غريب، ولكنه يدل على ضمير يحس الندم والرحمة؛ فقد كان يلهو بالصيد في صباه، فأطلق كلبا من كلابه على قطة عابرة فمزقها، فلم يزل نادما على فعلته إلى آخر أيامه، ولم يزل يعزو ما أصابه من العثرات والخسائر إلى ذلك الحادث الكريه.
كان جورج كار واحدا من اثني عشر أخا وأختا، لم يتمم تعليمه منهم غير أخ واحد، هو العم الذي تعهد برنارد الصغير بالمدرسة والتعليم في صباه.
وأب كهذا لا يظن به أنه يورث ابنه شيئا يظهر أثره في حياته الثقافية، وبخاصة إذا كان هذا الابن كاتبا من أكبر الكتاب في عصره.
لكنه في الواقع «مورث» ظاهر الميراث في ثقافة برنارد شو، وإن لم يورثه شيئا في رزقه.
فقد أورثه الاعتزاز بالوجاهة، وهو صفة يتشبث بها النبيل الخائب أشد من تشبث الناجحين الأعزاء في طبقة النبلاء.
وأورثه الاستخفاف بالتبعات والتقاليد، وربما أورثه أيضا صفة من الصفات الفنية التي تلاحظ في روايات برنارد شو، وهي اجتناب الأزمات ومواقف الحرج القصوى، فإن روايات شو جميعا تنتهي دون هذه المواقف ولا تتمادى إلى الذروة القصوى من الشعور.
ناپیژندل شوی مخ
بل أورثه خصلة لا يخطر على البال، للوهلة الأولى، أنها تستفاد من هذا الأب السكير، وهي: تحريمه المسكرات على نفسه؛ فإنه قد نشأ وهو يعافها ويلمس زرايتها وهوانها، ومثله في ذلك أناس كثيرون، منهم في عالم الأدب والدعوة الاجتماعية «أبتون سنكلير» الكاتب الأمريكي المشهور.
ولعله قد أورثه قليلا من ميله إلى الموسيقى؛ لأن أسرة شو عرفت بحب المرح والغناء. •••
وقد كانت والدته - ليوسندا أليصابات، أو بيسي كما كانوا يدللونها - تنتمي كأبيه إلى أسرة من أسر النبلاء المفتقرين. ماتت أمها وهي صغيرة فكفلتها قريبة لها حدباء على شيء من الثراء، أنشأتها نشأة بنات النبلاء، ودعت لتعليمها البيان والموسيقى الأستاذ لوجير المشهور، وأخذتها بالصرامة في تربيتها كما هو معهود في النساء الشائهات ومن تصطنع منهن سمت النبالة على الخصوص، وكان أبو الفتاة حيا ولكنها لا تراه إلا في الحين بعد الحين، ثم انقطعت صلتها به بعد أن فكر في البناء بزوجة جديدة، واتهم فتاته بالإيقاع بينه وبين أقاربه وتحريضهم على حبسه؛ لأنه مدين.
وضاقت الفتاة بمعيشة الصرامة والتزمت، فنزعت إلى التمرد، واستجابت لدعوة «جورج كار شو» حين اقترح عليها الزواج، وهو في نحو الأربعين وهي في نحو العشرين.
فخسرت الميراث الموعود، وشعرت بخيبة الرجاء وهي تقضي شهر العسل مع عريسها في لڤربول، فقد عرفت من كثرة القناني الفارغة في المطبخ كثرة ما يشربه هذا العريس من المسكرات، فهامت على رأسها من الدار إلى الميناء تنوي أن تعمل في السفن، ولا تعود أبدا إلى ذلك الزوج السكير، ولكنها شهدت هناك عربدة النواتية في سكرهم وهجرهم، فحمدت نصيبها من سكيرها المهذب الأنيس، وبقيت معه على مضض، وهي لا تعرف لها مهربا بعد انقطاع الصلة بينها وبين أبيها وأكثر أقربائها.
ورزقت منه بنتين وولدا هو برنارد، وفي ذلك يقول برنارد على طريقته المعهودة من السخرية والادعاء: إن ميلاد عبقري يحتاج إلى هذه التجربة التي سبقته بولادة بنتين! ولم يطل العمر بأحد من هذه الذرية غير برنارد.
وثابرت الفتاة على دراستها للموسيقى ودراستها للغناء، وكان لها صوت رخيم وذوق مطبوع. وانتهى شغفها بالموسيقى وضجرها من زوجها إلى علاقة قوية بينها وبين أستاذها «جورج لي» ... فهجرت منزل زوجها، وعاشت مع أستاذها، ثم بدا للأستاذ أن يرحل إلى العاصمة الإنجليزية فلحقت به هناك، وتركت برنارد في مسكنها وعنده «البيان» الموسيقي الذي يحرص عليه.
حدث ذلك بعيد سنة 1870، وكانت أوروبا كلها يومئذ - والعاصمة الإنجليزية على الخصوص - تموج بالمذاهب والدعوات في الفن والأدب والعلم والفلسفة والاجتماع، ومعظمها يجنح إلى التمرد وإنكار التقاليد.
كان فيها الماديون الملحدون، وكان فيها الروحيون الذين يتدينون بالتصوف ويباشرون تحضير الأرواح، ويقتدون بالبراهمة في اجتناب اللحوم والاقتصار على النبات وإحراق جثث الموتى.
وكان على رأس المدرسة الروحية آنا بيزانت المعروفة بدعوتها الصوفية، وإعجابها بالعقائد الهندية.
ناپیژندل شوی مخ
لكن البدعة النباتية قد جاوزت المتصوفين إلى الشعراء والأدباء، فكان بيرون وشلي يعلنان هذا المذهب، ولا يأكلان اللحوم أمام الناس، وإن شك الكثيرون في التزامهما هذا المذهب وراء الناس!
وكانت الدعوة الاشتراكية في إبانها، ومعها الدعوة إلى استخدام الفن في عرض الآراء الاجتماعية.
فكانت لندن جوا ثقافيا صالحا يتنفس فيه عقل الأديب الناشئ، الذي تهيأت له رسالة في الأدب العالمي من قبيل رسالة برنارد شو.
وقد كانت أمه تعيش في صميم هذه البيئة الفنية الثقافية؛ إذ كانت تحترف الموسيقى، وكانت بنتها الكبرى تحترف الغناء، ثم اشتغلت بالحركة الصوفية الروحية بعد وفاة بنتها الصغرى (1876)، عسى أن تتصل بروحها على نغمات الألحان كما كان يفعل بعض المحضرين للأرواح.
ويعتقد النقاد - كما يعتقد شو نفسه - أنه مدين لوالدته بتوجيه فطرته وتوجيه بيئته.
فمنها ورث ذوقه الموسيقي الذي يكاد يضارع في العمق والأصالة عبقريته الأدبية، ومنها ورث الصلابة التي لا تبالي بمخالفة العرف والتمرد على سلطان التقاليد، ومنها ورث البنية السليمة؛ لأنها على الرغم من طول مراسها لمضانك الفاقة قد نيفت على الثمانين، ومن البيئة التي عاشت فيها تعلم الاهتمام بالدعوة الصوفية النباتية، فأصبح من النباتيين. •••
وصل برنارد شو إلى لندن وهو يناهز العشرين، وكان مولده في دبلن (في السادس والعشرين من شهر يوليو سنة 1856).
وبين هذين الأبوين اللذين لا مشاركة بينهما في غير الثورة على التقاليد والاستخفاف بالتقاليد، درج برنارد الصغير.
درج وهو مفتح الذهن والعينين، وتعلم القراءة وهو في نحو الثالثة، ومن أقواله المأثورة إنه ولد قارئا ... وإنه لا يذكر زمنا كان فيه من الأميين!
وكان له خال طبيب بحري، فكان يستمع إلى أقاصيصه عن بلاد العالم وأممه وراء البحار.
ناپیژندل شوی مخ
وكان له عم متعلم، فكان يتعهده بالإرشاد إلى كتب المطالعة والحث على التوسع فيها، فكاد أن يأتي - وهو دون العاشرة - على الكتب التي يهواها الصغار، كألف ليلة وليلة، وروبنسون كروزو، ورحلة الحاج، وعشرات الكتب التي لا يقرؤها الأطفال عادة في تلك السن، كتراجم الفنانين وروايات ديكنز وموليير وشكسبير، ولم تفارقه عادة التوسع في المطالعة بعد ذلك إلى شيخوخته المباركة، وقد أدرك الرابعة والتسعين.
كان له معلم وكانت له مربية. أما المعلم فطرده هو ذات يوم وعدا وراءه يهم بضربه، وأما المربية فقد كان يألفها؛ لأنها كانت تأخذه إلى الحانات والأزقة حيث تلقى أصحابها وصويحباتها، وتشبع شوقه إلى المناظر والأعاجيب في هذه البيئة المريبة، والمفروض في البيت أنها تأخذه إلى الحدائق والمنازه والخلوات، وقد أوشك أن يحرم هذه المنازه لولا ولع أبيه بالسباحة واصطحابه إياه إلى البحر من حين إلى حين.
ثم عز على أهله أن يحتفظوا له بمربية أو معلم، فذهب إلى المدرسة، وأعجلته الحاجة فعمل في قسم الحسابات ببعض المتاجر الكبيرة، ولم ينس في وقت من الأوقات أن يرود المكتبات العامة للقراءة والاطلاع واستعارة المصنفات التي لا يقوى على شرائها، واستطاع أن يتعلم قليلا من اللاتينية والإغريقية، وأن يتكلم الفرنسية ويفهمها أكثر مما يتكلمها.
عمل لكسب قوته وهو في نحو الخامسة عشرة، وأرضى رؤساءه بذكائه وأمانته وحسن تصريفه لعمله. فلما تركهم - وهو في نحو العشرين ليلحق بأمه في العاصمة الإنجليزية - راجعوه كثيرا، ثم قبلوا استعفاءه آسفين.
ولم تكن معيشة أمه ميسرة حين لحق بها في العاصمة الإنجليزية، وكانت على هجرها لأبيه تعتمد على معونة ضئيلة منه قبل وفاته لمساعدة بنتيه، وزادهم نزول برنارد بينهم عبئا على أعبائهم، فقد تعسرت عليه سبل الأعمال، ولم يسترح طويلا إلى وظائف الشركات التي كان يختارها له أستاذ أمه الموسيقي «لي»، فقضى زمنا لا طعام له غير البطاطس المسلوق، ولا كساء غير بذلة واحدة يلبسها في جميع الفصول.
وحاول أن يكسب قوته بالكتابة إلى الصحف في نقد الموسيقى والتمثيل، فأبطأت عليه ثمراته، وجرب كتابة القصة، فألف قصصا لم يفد منها شيئا في رزقه، وأفاد منها بعض الشهرة بين طائفة من القراء والأدباء، وقد فتحت له مقالاته في نقد التمثيل أبواب المسرح، فتحول إلى معالجة المسرحيات، وأصاب من خطواته الأولى حظا غير يسير من النجاح، فثابر على الكتابة في هذا الباب وأبدع في موضوعاته وأساليبه، فأصبح طرازا مستقلا في أدب المسرح نحو جيلين كاملين، ولم يدع مسألة من مسائل البحث التي تساور العقول في عصره إلا أحاط بها في رواية من رواياته، فتكلم عن: مشكلات العقيدة، ومشكلات الفكر، ومشكلات الحكم، ومشكلات السياسة الوطنية العالمية، وأبدع الرواية التي تسمى بالملحمة التمثيلية لطولها وتعدد مواقفها، وأعانه على ترويج هذه البدعة ذيوع اسمه، وإقبال الناس على مصنفاته وآثاره، وتقدم العرض السينمائي الذي يستطاع فيه ما تعجز عنه المسارح من الحيل والتوفيقات، وأهم رواياته من هذا القبيل رواية «العودة إلى متوشالح»، الذي جاء في التوراة أنه عاش تسعمائة وتسعا وستين سنة، ورواية «الإنسان والسوبرمان»، ورواية «جان دارك»، ورواية «أندروكليز والأسد»، ومدارها جميعا على شرح فلسفته في أصل الوجود وحقائق الدين ومصير الإنسان وأمله في مستقبل الحياة. وقد بلغ من ثقته بأسلوبه المسرحي أنه نقح رواية لشكسبير هي رواية «سمبلين»، ليبين الفارق بين أسلوبه وأسلوب شكسبير.
وجرى على عادة طريفة في نشر رواياته المسرحية، فمهد لكل رواية منها بمقدمة مسهبة تصلح أن تكون كتابا وافيا في موضوعها، وتغني فيه من لا يرتاد المسرح من القراء.
ولا يكتم برنارد شو ارتياحه إلى نجاح مسرحياته لما جناه من أرباحها، بل لا يكتم هواه للمال وحبه للاستزادة منه ما استطاع، ولكنه - مع هذا - ترك الكتابة للمسرح وهو يدر عليه الألوف من حقوق التمثيل والنشر والترجمة والعرض في دور الصور المتحركة؛ ليكتب مؤلفاته التي يعلم بها النساء، والجمهور عامة، ما لهم وما عليهم من الحقوق الاجتماعية، وما ينبغي لهم من السلوك آحادا وطوائف في المجتمع الحديث.
ومنحته لجنة نوبل جائزتها عن الأدب (سنة 1925)، فرفض الجائزة وكتب إلى أمين السر في اللجنة يقول:
إن المال كالعوامة التي ألقيت إلى السابح بعد وصوله إلى بر النجاة ...
ناپیژندل شوی مخ
وأوصى بإنفاق المال في توثيق الصلات الأدبية والثقافية بين السويد والجزر البريطانية.
على أن طريقه في الكتابة المسرحية لم يكن بالطريق المفروش بالورود أو الذي خلت وروده من الأشواك، فقد أعنته أصحاب المسارح بطلب التنقيح والتبديل طويلا كما أعنتهم بالرفض والتقريع، وقد أعنته الرقباء وأعنتهم كذاك، فحظروا بعض الروايات، وقال الرقيب عن إحداها - وهي «صناعة مسز وارين»: إن المؤلف لا يشعر بحرج الضمير.
ولما سمع أهل نيويورك أنها ممنوعة في البلاد الإنجليزية تدفق طلاب «المحظورات» وطالباتها على المسرح، واشتجروا على تذاكر الدخول، وأوشكت أن تكون فتنة لا تؤمن «على الأمن والنظام» ... فوثب الشرطة إلى المسرح وقبضوا على فرقة التمثيل بقضها وقضيضها، وذهبوا بها إلى ساحة القضاء، فاستمهلهم القاضي ريثما يقرأ الرواية، ثم حكم بوقف التمثيل، وظل تمثيلها موقوفا إلى أن صدر الحكم من قضاء الاستئناف بإباحته، وكان شو يقول كلما سأله الرقباء الذين يمنعون تمثيل رواياته: إن الرواية تهزأ بالأخلاق، إن كنتم تقصدون بالأخلاق هذا العرف الشائع بين الناس، وإنه ما من رواية تستحق أن تكتب إن لم يكن فيها تصحيح ونقد للعرف المألوف .
في خلال ذلك كله كان شو يتردد على جماعات الاشتراكيين ويؤيدهم بلسانه وقلمه، وهو خطيب مقبول المحضر، أخاذ الصوت، حسن الإيقاع.
وكان يجذبه إلى الاشتراكية أكثر من جاذب واحد في أوائل جهاده على الخصوص، كان يجذبه إليها فقره وتمرده على النظم القائمة ونشأته الأيرلندية التي تعلم منها الثورة على الاستعمار والاستغلال، فانضوى إلى جماعة الفابيين وعمل معهم وخطب في محافلهم وندواتهم، ولكن دعوته الاشتراكية كانت أبعد شيء عن ضيق العصبية ولجاجة البغض والحرد والشنآن، وعلمته سعة الأفق وسعة الاطلاع ألا يتشيع إلى مذهب محدود بين مذاهب الفكر والإصلاح، فلوحظ على رواياته أن نصيب الدعوة الاشتراكية فيها أقل نصيب إلى جانب مسائل الأخلاق والعقائد، ومسائل الحياة الإنسانية الكبرى على التعميم.
ولا حصر لما قرأه شو من آداب عصره وآداب سائر العصور، إلا أن المؤثرين فيه من مفكري العصر الحديث محصورون معروفون، وهم على الأغلب: لامارك، وبرجسون، ونيتشه، وهنري جورج، وأبسن، وصمويل بتلر الفيلسوف الموسيقي المصور الذي أدركه شو وهو في أوج الشهرة والنفوذ.
فمن لامارك وبرجسون أخذ نظريته في التطور الخلاق.
ومن نيتشه أخذ نظريته في السوبرمان ومستقبل الإنسان.
ومن هنري جورج أخذ آراءه الاشتراكية.
ومن أبسن أخذ طريقته المسرحية ورأيه في البيت وحقوق المرأة العصرية.
ناپیژندل شوی مخ
ومن صمويل بتلر أخذ مقاييسه في نقده للفن، ونقده لمذهب النشوء والارتقاء، وأسلوبه اللاذع في كلماته الموجزة، وقد تدل كلمة أو كلمتان من مفكرات بتلر على أثره الواضح في كلمات شو، فمن ذاك أنه يقول: «خير للإنسان أن يخطئ مع الروح القدس من أن يخطئ مع المال، فقد يبالي الروح القدس بآحاد الناس أو لا يبالي بهم، ولكنه يحسب حساب المال ولا جدال؛ فمن كان له مال أغناه وكفاه.»
ومن ذاك قوله: «إن أبانا الذي في السماوات يعطينا خبزنا، ولكنه لا يجري على طريقة المخابز في أوقات التوزيع.»
وكلمات شو في مفكرات الثائر أو في حوار مسرحياته تطبيقات مختلفة لهذا الأسلوب، وإن كان توقير التلميذ للعقيدة الإلهية أظهر وأكرم من توقير الأستاذ. •••
هذه عجالة موجزة غاية الإيجاز، قد تغني - في مثل هذه الرسالة الصغيرة - في الإلمام بالخطوط البارزة من هذه السيرة الحافلة، ولكنها لا تغني عن سؤال يتردد لا محالة على لسان من يسمع ببرنارد شو أو يقرأ عنه، وهو: كيف يعيش هذا الرجل في حياته الخاصة؟ كيف تكون المعيشة البيتية للرجل الذي يجهر بازدراء التقاليد، ويتنقل بين عشرات من النساء في جو الفن أو جو الثورة على النظم الاجتماعية، وكلهن أو أكثرهن يتحدثن عن الحب الحر و«حقوق المرأة الشخصية»، ويباهين بالانطلاق من أسر العرف وفرائض الدين؟
إن أعاجيب برنارد شو كثيرة، وأعجبها فيما نظن هذا التناقض التام بين الصورة التي يستوحيها قارئه عن حياته الخاصة من كتبه وآرائه، وبين الصورة الحقيقية التي يعرفها كل من عاشروه واختبروه.
فالقارئ يستوحي من كتبه وآرائه صورة رجل غارق في الإباحة والشذوذ عن العرف، والمتعة بما تمهده له وسائل الشهرة والثروة.
ولكنها أكذب صورة للرجل كما عرفه صحابته ومعاشروه، ولعلها تصدق على كل إنسان في البلاد الإنجليزية، وفي العالم كله، قبل أن تصدق عليه.
إنه ليس بالإباحي ولا بالشهوان الغارق في المتع والملذات، بل هو على نقيض ذلك أقرب إلى النسك والتقشف، يقصر طعامه على النبات ولا يقرب الخمر ولا يحتفل بالمائدة في طعامها ولا زينتها، ولا يقتني من الأثاث غير السهل البسيط الذي يلزم كل اللزوم في الاستعمال؛ كأنه يقيم في معسكر على أهبة الرحيل.
عاش مع أمه إلى أن توفيت (سنة 1913) وهو يعلم أنها لا تقرأ كلمة من مؤلفاته، ولا تحفل بعمل من أعماله، ولم يقع بينه وبينها خلاف أو جفاء حتى ودعها الوداع الأخير، فاحتفل بإحراق جثتها على حسب وصيتها، وظل وفيا لذكراها إلى هذه الأيام.
في شبابه.
ناپیژندل شوی مخ
والعجيب في أمره، أنه أقام الصلوات عليها بعد وفاتها، وكذلك فعل في تشييع جميع أعزائه، ومنهم أخته التي نهت في وصيتها عن إقامة الشعائر الدينية على جثتها، وما كان ذلك عن إيمان منه بالشعائر التي تقام على جثث الموتى، بل لأنه يرى أن الأمر أهون من أن يساوي مصادمة شعور من حوله، ولا سيما شعور المعزين الذين يواسونه في مصابه.
أما علاقاته بالمرأة عامة، فخلاصتها أنها مهمة في كتبه ومذهبه، غير مهمة في حياته وعواطفه، وهو لا يؤمن بالحب إلا أن يكون علاقة مراسلة لا مغامسة، ولا يرى في الشهوات الجسدية ما يستحق أن يتهالك عليه، بل يعاف هذه الشهوات ويعجب كيف يتلاقى في وضح النهار رجل وامرأة قضيا الليل في مغامستها. ويقول: لولا هوان هذه الشهوة لما اختيرت لها أعضاء النفايات!
كانت له علاقات مع كثيرات، أشهرهن في عالم الفن الممثلة البارعة إللن تيري، وأشهرهن في عالم الدعوات الفكرية آنا بيزانت، وأشهرهن في عالم الدعوات الاجتماعية إلينور أصغر بنات كارل ماركس.
وهو يقول عن إللن تيري إنها تعبت من خمسة أزواج ولم تتعب منه إلى يوم مماتها؛ لأنه أبى أن يشوب الصلة بينهما بشائبة المتعة الجسدية، وقد تبين فعلا أنها بقيت على حبه إلى سويعاتها الأخيرة، فكان آخر ما كتبته كلمة تحية له وثناء عليه.
أما آنا بيزانت فقد كانت مثلا في غرابة الأطوار وتقلب المزاج؛ خطيبة مفوهة وكاتبة فصيحة، تجمع خطبها ورسائلها بين الدفاع عن الإلحاد والدفاع عن الصوفية والإشادة بالبرهمية، وقد هامت به وهي متزوجة لا سبيل إلى ربط حياتها بحياته كما كانت تريد، إلا أنها لجأت إلى وسيلة تعوضها عن رابطة الزواج وتوافق ما اشتهرت به من غرابة الأطوار ... جاءته يوما وفي يدها ميثاق مكتوب تطلب منه أن يوقعه ويتعهد بتنفيذه، وإذا بالميثاق جملة من الشروط المطولة تلزمه وتلزمها بتنظيم علاقة الحب بينهما ... فضحك ولما يفرغ من قراءتها، وقال لها: «إن الميثاق أصعب من جميع العهود التي تفرضها جميع الكنائس في رابطة الزواج.» فغضبت وجاءته مرة أخرى برسائله تردها إليه، وتؤذنه بانقطاع المودة بينهما، فصاح بها مظهرا للدهشة والامتعاض: ماذا؟ ألا تحرصين حتى على هذا الأثر مني؟ ... حسن. وقذف بالأوراق في النار.
أما بنت كارل ماركس، فقد أراحه منها زميل في الدعوة الاشتراكية من العلماء يسمى إدوارد أفلنج، خدعها وهي تحسب أنه أعزب، وعاشت معه حتى ماتت زوجته، فلما عرضت عليه أن يتزوج بها أعرض عنها، فبخعت نفسها كما فعلت أخت لها من قبل، إيثارا للموت على الشيخوخة في أوانها.
ولا يدعي شو أنه كان ملكا نورانيا في جميع مغامراته مع النساء، فقد غلبته مآزق الفتنة غير مرة، ولكنه لم يكن صاحب الإغراء في كل مرة، بل كان في أكثرها هو المغرى الذي تحيط به الشبكة قبل أن يتمكن من الإفلات.
ثم تزوج شو كما تزوج أبوه بعد أن جاوز الأربعين، فعقد زواجه (أول يونيو سنة 1898) على الآنسة باين تونزند، وهي فتاة أيرلندية من الوارثات اللائي أضجرهن فراغ الغنى وتفاهة الحياة بغير وجهة، فشغلت نفسها بالدعوة الاشتراكية، وأحبت شو لطلاوة أحاديثه وطيبة قلبه وشهرته واشتغاله بالإصلاح والمسائل الإنسانية، وأشفقت عليه في عزلته وسوء معيشته في مسكنه، وأشفق هو على سمعتها من طول ملازمتها إياه، فاتفقا على الزواج، ولبثت على إعجابها به وإكبارها له بعد الألفة الزوجية، فكانت لا تذكره باسمه إذا تحدثت عنه، وإنما تسميه «العبقري» فتقول: هكذا أراد العبقري، وهنا يحب العبقري أن يجلس، فيعلم السامعون من تعنيه، وهي التي كانت تغريه بالسياحة والطواف حول «الكرة الأرضية» وتعنى به عناية الأمهات بالأبناء.
ثم فقدها وانقطع لعزلة الشيخوخة وهو أحوج ما يكون إليها.
من يره اليوم في الرابعة والتسعين يذكر تلك الصورة الوصفية الرائعة التي صوره بها أديب التشك الأكبر - كارل كابك - حيث قال: «لكأنه شخصية مما وراء الطبيعة. مفرط الطول مفرط النحافة، يبدو كأنه نصف إله ونصف ساتير، طال تساميه مع الزمن آلاف السنين حتى أنبتت كل صلة تلصقه بالطبيعة. له شعر مشتعل ولحية بيضاء وبشرة موردة، وعينان صافيتان لا تشبهان عين إنسان، وعليه سمة من سمات دون كيشوت، فهو من جانب يلوح في هيئة الرسل، ومن جانب يلوح كالعابث الذي يهزأ بكل ما في الدنيا وهو منها. وما رأيت في حياتي قط كائنا مختلفا كهذا الكائن. لقد خفت منه، وخطر لي أنه روح من الأرواح يزعم أنه الشهير برنارد شو ، وهو يفيض بالحياة، ولديه آكام من الأحاديث الشائقة عن نفسه أو عن سترندبرج أو عن رودان، وغيرهم من الناس المشهورين والأشياء المشهورة، وإصغاؤك إليه مسرة مقرونة بالروعة والهول.»
ناپیژندل شوی مخ
على الطعام.
وأحسن ما يزكيه، أنه يخلف ظن زائره بالمناقضة بين صورته في الذهن وصورته في الواقع، كما قالت صحفية فرنسية رأته في بيته، فغالبت نفسها لحظة ثم صاحت: ماذا أرى؟ كنت أحسبني أرى أجرأ المفكرين المتمردين في البلاد الإنجليزية، فإذا بي أنظر إلى حضري من أوساط المقلدين. •••
واليوم، وقد بلغ الغاية من تحقيق الظنون واختلاف الظنون، يتم غرائبه وهو يتحدث عن المصير الذي لا معدى عنه لحي من الأحياء، فيوصي جادا أو هازلا، ألا يتبعوا نعشه بالسيارات في شارات الحزن والحداد، بل بقطعان من البقر والضأن والخنازير، وأسراب من الحمام والإوز والدجاج، وحوض يعوم فيه السمك الحي، موشحات كلها بالبياض، مشتركات كلها في كرامة الرجل الذي كان يؤثر أن يهلك على أن يشبع بلحوم زملائه من المخلوقات الحية!
ولو تحققت هذه الوصية يوما لصارت جنازة شو أليق الجنازات بشو، وفاقا للغرابة التي يتوخاها في كل شيء، فهي كما قال أغرب موكب شوهد من نوعه، بعد موكب الذاهبين إلى سفينة نوح!
مؤلفاته
وفيما يلي طائفة من أسماء مؤلفاته على حسب أبوابها، تشير إلى أهمها ولا تستقصيها:
الروايات القصصية
المراهقة (1930)، عقدة غير معقولة (1885-1887)، الحب بين الفنانين (1887-1888)، صناعة كاشيل بيرون (1885-1886)، اجتماعي لا يجتمع (1887).
المسرحيات من 1892 إلى 1949
منازل الأيامى، زير النساء، صناعة مسز وارين، السلاح والإنسان، كانديدا، رجل القدر، قلما تدرس، تلميذ الشياطين، قيصر وكليوباترا، ارتداد الكابتن براسبوند، الإنسان والسوبرمان، جزيرة جون بول الأخرى، كيف كذب لزوجها، ماجور بربارا، حيرة الطب، يتزوج، مطلع بلانكوبوسنيث، سوء التوفيق، سيدة الأغاني السمراء، رواية فاني الأولى، أندروكليز والأسد، مغلب، بجماليون، بيت القلب الكسير، كاترين الكبرى، عودة إلى متوشالح، سان جوان، عربة التفاح، أصدق من أن يجود، على الصخور، المليونيرة، جنيڤة، في أيام الملك شارل الصالح الذهبية، سمبلين منقحة.
ناپیژندل شوی مخ
فصول ومقالات
لباب الأبسنية، الڤاجنري الكامل، صحة الفن، مغامرات الزنجية في البحث عن الله.
كتب سياسية
دليل المرأة الذكية في الاشتراكية ورأس المال (1928)، دليل السياسة للجميع (1944).
وله غير ما تقدم مسرحيات صغيرة ومقالات في الدعوة الاشتراكية، وتعليقات على الفنون، وردود على ناقديه، وتراجم له في بعض أدوار حياته.
شو والعلم
قال شو في مقدمة روايته «عقدة غير معقولة»:
لما كنت مشغوفا بالعلوم الطبيعية، وكنت أقرأ تندال
Tyndall
وهلمهولتز
ناپیژندل شوی مخ
Helmholtz ، عدا ما تعلمته من صديق لي من بني عمومة جراهام بل
Bell
وذوي العلم بالكيمياء والطبيعة؛ فقد كنت - على ما أعتقد - الرجل الوحيد في المؤسسة كلها الذي يعرف شرح الأجهزة التليفونية، واتفق أنني عقدت عرى الصداقة بيني وبين محاضر «رسمي» من كولشستر له ميل قوي إلى درس الزراعة الفطرية، فاستطعت أن أنوب عنه في أداء عمله، وأفلحت في ذلك فلاحا يخيل إلي أنه أقام الأساس لشهرة مستر أديسون في لندن.
وهو يعني هنا شركة التليفونات التي كانت تحمل اسم أديسون في العاصمة الإنجليزية.
والذي قاله شو عن نفسه تؤيده ترجمة حياته وشواهد مؤلفاته، فهو لم ينقطع قط عن متابعة الحركة العلمية في عصره، واستهوته فكرة السوبرمان فأقبل على مطالعة المباحث العلمية التي تتصل بموضوع التطور، ومنها التاريخ الطبيعي وعلم الحياة، وكاد أن يستوعب كل ما كتب في هذه الموضوعات، ولا سيما كتب صمويل بتلر ولامارك ودارون وهربرت سبنسر.
وكان هواه مع مذهب لامارك وصمويل بتلر، وهو المذهب الذي يفرض للحياة قوة «موجبة» تسعى إلى التقدم، وتملك وسائل الاستزادة من أسبابه ودواعيه، فلم تعجبه فكرة دارون الذي وكل الأمر كله إلى «الانتخاب الطبيعي»، وجعل هذا الانتخاب حكما فاصلا في استبقاء الأحياء التي امتازت - بالمصادفة - على غيرها.
ومذهب دارون أقرب إلى العلم، لالتزامه حدود التفسير المعلوم، ومذهب بتلر ولامارك أقرب إلى الفروض الفلسفية، لتقديرهما قوة للحياة لا تخضع للتجارب والمشاهدات.
وقد جنح شو إلى المذهب القائل بقوة الحياة أو بدفعة الحياة؛ إذ هو أقرب المذهبين إلى تسويغ الأمل في ظهور «الإنسان الأعلى» أو السوبرمان.
وفيما عدا هذه الفكرة العلمية الفلسفية، لا نعرف لشو مساهمة في الآراء العلمية يأخذ بها المختصون بهذه الموضوعات.
فمعظم آرائه بهذا الصدد من قبيل التعليق على سلوك بعض العلماء، وبخاصة علماء الطب والعلاج.
ناپیژندل شوی مخ
فهو ينكر دعوى الأطباء في «إعجاز هذه الصناعة» أو سلامتها من النقص والخطأ، ويقول إن البشر مطبوعون على مهابة من يتصرفون بالحياة والموت، ومن هنا إكبارهم لصناعة الطب في العصر الحديث، بعد شيوع الجراحات التي قد تحيي وقد تميت.
وفي مقدمة رواية «حيرة الأطباء» يقول: «إنه لا جدوى من إفهامك الطبيب أن مريضه الطفل محتاج إلى راحة أكثر وملابس أفضل ومآكل أنفع، وبيت أنقى في هوائه وجداره، وليست حاجته إلى العقاقير.»
وقد ألقى على لسان سير باتريك من أبطال تلك الرواية كلمة يقول فيها: «إنه كان في أيام أبي صديق يسمى جورج بدينجتون اهتدى إلى العلاج بالهواء الطلق في سنة 1840، فخرب وأفلس واضطر إلى هجر صناعته لغير شيء إلا أنه كان يفتح النوافذ، واليوم نعود نحن فلا نكاد نبقي على رأس المريض بالسل سقفا يغطيه.»
ومن حملاته على الطب ما تسوغه كل سجية إنسانية كريمة، كإنكاره الشديد لتشريح الحيوان وهو بقيد الحياة.
إلا أنه في حملات أخرى يتهجم بغير سند، كحملته على اللقاح والتطعيم وادعائه أن الجراثيم لا تخلق الداء، بل لعلها عرض من أعراض الداء.
ولإنكار اللقاح الجبري ناحية تسوغها آراء شو في الحرية الفردية، وإن كانت وقاية المجتمع كله تسمح بالإجبار لاتقاء أخطار الوباء وما شابهها من الأخطار.
على أن الناحية التي توصف بالتهجم حقا هي إنكار حقائق الجراثيم، وهي لا تقبل الإنكار بهذه السهولة.
ولا يسلم شو من النقد في هذا التهجم.
ولكنه لا يخلو من عذر في أول عهده بالهجوم على علم الجراثيم وأساليب العلاج بالحقن واللقاح، فلا ننس أن العلماء أنفسهم أنكروا دعوى كوخ وباستور في تعليل الأوبئة والأمراض المعدية بهذه المخلوقات التي تخفى على أدق الأبصار، وأن تصوير هذه الخلائق الدقيقة لم يبلغ من الإتقان مبلغ الحقيقة الملموسة قبل بضع سنوات.
ويجوز أن نعتذر لشو بمعاذير طبعه إن كانت هذه المعاذير مقبولة في مآخذ الرأي والثقافة ؛ فمن طبعه النزوع إلى المخالفة والنزوع إلى تحدي الدعوى والكبرياء، وقد كان ادعاء «العلميين» في أيام نشأته مما يغري - والحق يقال - بالتحدي والهجوم.
ناپیژندل شوی مخ
وقد يكون شو على حق في استخفافه بالكشوف العلمية، وميله إلى اعتبارها عملا من أعمال الدأب والمثابرة يقدر عليه كل من يصبر وينتظر، ولكن المسألة في جوهرها ليست مسألة البحث في كفاءة هذا المكتشف أو مكافأة ذاك، وإنما هي مسألة الانتفاع بما يكتشفون، وقد تكون منفعة العقار عظيمة غاية في العظم مع قلة الكفاءة العقلية التي أعانت على كشفه، كما انتفع الناس بكثير من العقاقير التي اهتدى إليها الباحثون على غير قصد وعلى غير انتظار.
وأيا كان رأي شو في العلم، فهو رأي يسمع ويحل عند سامعيه محل الاعتبار؛ لدلالته - على الأقل - على موقع هذا العلم في عقول النوابغ من الأذكياء.
أما أن «شو» يساهم في المباحث العلمية، فتلك مساهمة في غير بابه، فقد خلقه الله بذهن الفنان المفكر، ولم يخلقه بذهن العالم كائنا ما كان منحاه من العلوم التجريبية أو العلوم الرياضية، وقد كادت تلتقي في الزمن الأخير.
فالعقل العلمي يأخذ بتجربة الحقائق الخارجية، والعقل الرياضي يأخذ بأقيسة الفروض الذهنية، والعقل الفني يأخذ بالذوق والتحليل والفطنة، ولا يقف عند التجارب الملموسة والفروض المشهورة.
وقد قال شو عن قدرته الرياضية في مقدمة روايته «حيرة الأطباء»: «إنه لم يستخدم قط لوغارتما، ولا يضمن أن يستخرج مربع أربعة بغير خطأ.»
ومبالغته في الإنكار على نفسه كمبالغته في الادعاء لها، وكلتاهما تدل على ذهن غير ذهن الرياضي المقدر وغير ذهن العالم المجرب، إنما هو ذهن فنان يسمع قوله في العلوم والفروض، ولا ينسى سامعوه أنه فنان.
شو والفن
والمقصود بالفن في سياق الكلام على شو هو فن المسرح قبل كل شيء، ثم فن الموسيقى، ثم سائر الفنون.
وشو صاحب مدرسة مستقلة في المسرحيات.
نعم، إنه يقتدي بالشاعر النرويجي هنريك أبسن، ولكنه أوسع نطاقا من أبسن في جانب، وأضيق منه نطاقا في جانب آخر.
ناپیژندل شوی مخ
فقد تناول شو في مسرحياته كل ما يتناوله الفكر من مسائل الفلسفة، ونظم الحكم، ومشكلات المجتمع والسياسة، وفصل القول في أمور لم يبحثها أبسن ولم يكن في طاقته أن يبحثها، وأطلق التمثيل من قيود الفصول القصار بما أبدعه من الملاحم المسرحية التي تستغرق الصفحات الطوال، وكانت منزلته الأدبية خير شفيع لتلك الملاحم عند الفرق التمثيلية التي تشتغل بالمسرح أو بالصور المتحركة. فلولا تلك المنزلة لما ظهرت روايات بهذه الضخامة على المسرح أو اللوحة البيضاء.
ومزية شو في مسرحياته تكاد تنحصر في حسن الحوار وعرض الأفكار، فهي فقيرة في المواقف، فقيرة في تكوين «الشخصيات» وتلوينها، وعبثا تحاول أن تلقى في رواياته شخصية كشخصيات شكسبير وموليير وسفوكليز، أو موقفا كالمواقف المحكمة التي يعرضها لنا أولئك الشعراء في مهارة خفية، يخيل إلينا أنها أحكمت تلك المواقف بغير عناء. فما في روايات شو من محزنات أو مضحكات فهو من كلمة تقال أو حوار مرتب بين السائل والمجيب، ولنا أن نقول إنه أقام لنا مسرحا أو فتح لنا ناديا بمعنى واحد، فالمسرح ونادي السمر والحديث في روايات شو توءمان.
يقول شرشل في مقاله البديع عن روايات شو: «إن من تجديداته الأخرى - والكبرى - أنه لا يعتمد في مسرحياته على التجاوب بين الشخصية والشخصية، أو على التجاوب بين الشخصية والبيئة، ولكنه يعتمد فيها على التجاوب بين الحوار والحوار، وبين الخواطر والخواطر، فتصبح خواطره شخوصا تتصارع فيما بينها، تارة بقوة مسرحية شديدة وتارة بغير ذلك، وتصبح شخوصه الإنسانية - مع استثناء قليل - عائشة بما تقوله، وليست عائشة بما تعمله، ولكنها مع ذلك تعيش.»
والفيلسوف «جود» تلميذ شو يتقبل هذا النقد ويضيف إليه قول القائلين: إن شخوص شو لا تعدو أن تكون أبواقا ينفخ فيها آراءه ودعواته. ثم يقول: إن هذا النقد تحصيل حاصل؛ لأنه يصدق على جميع المؤلفين وجميع الشخوص. «إلا أن بطلان التهمة إذا أريد بها أن الشخوص ليست أفرادا حية، بل مجرد تسجيلات صوتية كقوالب الحاكي، يكفي في إظهاره سرد أسماء كأسماء: ديك، ودجيون، ولادي سيسلي، ونفليث، ولويس، ديوبدات، وكانديدا، والقديسة جون، وكابتن شوتوفر ، وهم شخوص يعيشون بحقهم في الحياة لا بحق التأليف، ونحن نذكرهم أفرادا أحياء كما نذكر شخوص شكسبير وديكنز ...»
والذي ينساه جود أن تمييز الشخوص قد يرجع إلى فارق في صفة من الصفات غير صفة الحياة الطبيعية، كالفارق بين رسوم الصور المتحركة التي نفرق بينها لطول ما نعهدها في صورها، وإن خلت تلك الصور من الملامح النفسية التي يحدث بها التمييز بين إنسان وإنسان.
وشو في هذه الخصلة يكاد لا يختلف عن أستاذه هنريك أبسن، فهو أيضا يرسم لنا أفكارا في شخوص، ويعطيها من الحياة بمقدار ما لها من عبارات الحوار، وإنما الاختلاف بينهما في سعة النطاق من جانب، وضيق النطاق من جانب آخر، فشو أكبر منه تارة وأصغر منه تارة أخرى، وموضع امتياز شو هو ما أشرنا إليه من سعة موضوعاته وتعدد آفاقه، وموضع امتياز أبسن في عبارة الأداء لا في لباب الموضوع؛ إذ هو شاعر ينظم الملاحم في قصائد من الشعر السلس المطبوع، وشو لم يكن له من الشعر نصيب كثير ولا قليل.
صورة فحمية من عمل جارته كلير ونستن.
وقد حاول شو أن ينظم الشعر، فلم يعلن منه غير مقطوعات غزلية فكاهية، تحسب مع الشعر الذي ينظم لمحفوظات الأطفال، وسئل عن محاولته الشعر وعدوله عنه، فقال إنه تركه لأنه رآه يملي عليه ما تحكم به القافية ولا يقول فيه ما يعنيه، وهو عذر لو منع شاعرا لامتنع الشعر كله، ولكنه عذر من ليس بشاعر؛ لأنه لا يستطيع أن يعبر بالشعر عما يريد. •••
ومنزلة شو في التعليقات الموسيقية تلي منزلته في المسرحيات، وإن لم يصح فيها أن يقال إنه صاحب مدرسة في هذه التعليقات.
ويظهر أن سليقة الموسيقى ملكة موروثة من أمه، وأن فائدته من الملحنات التي وضعها نوابغ الموسيقيين - ولا سيما ڤاجنر - أكبر من كل فائدة استفادها من المسرحيات التي وضعها كبار الشعراء والكتاب؛ إذ يغلب على مسرحياته أنها ملحنات لفظية تنوب فيها النكات والكلمات عن الأغاني والألحان، وأنها سمط ينتظم النكتة هنا والجواب المسكت هناك، كما جعلت الملحنات سمطا لانتظام الألحان الموقعة في شتى المناسبات.
ناپیژندل شوی مخ
واعتقاد شو في الموسيقى أنها تنقل إليك الشعور نفسه من حيث يعجز القصاص عن نقله فيكتفى بوصفه. وإننا إذا أصغينا إلى الرواية الموسيقية غمرتنا حالة كالحالة التي جاشت بنفس البطل، واستولت عليه في تلك اللحظة، وهو يقول: «إنني نفذت إلى فكتور هوجو وشيلر من طريق الموسيقي دونيزتي والموسيقي فردي والموسيقي بيتهوفن، ونفذت إلى التوراة من طريق هاندل، وإلى جيتي من طريق شومان ...»
والذين يعقبون على هذا الرأي، منكرين لا يبخسون الموسيقى حقها، بل يعطونها فوق هذا الحق ويجعلونها غرضا مقصودا لذاته، ولا يحصرون مهمتها في التعبير عن الأغراض الأخرى، وهي عندهم «حياة مستقلة» وليست بكلام أو أداة للكلام.
وفي اعتقادنا أن الموسيقى قد تكون معبرا، كما قد تكون هي نفسها «شيئا معبرا عنه».
وهي لا تكون كذلك إلا إذا كانت صورة للنفس في حالات انتظامها، وتناسق الشعور فيها، وتطابق النغمات بينها وبين نظام الكون الذي نعيش فيه، وهي بهذه المثابة أكثر من تعبير؛ لأنه ليس هناك ما تعبر عنه غير هذه المطابقة بين عالم السريرة وعالم الوجود كله، وما أندرها من مطابقة! وما أندر الموسيقى التي تحكيها وتغنينا بها عن كل حكاية سواها!
وقد اشتغل شو بالنقد الموسيقي زمنا، واشتغل معه بنقد الآثار الفنية على الإجمال، ومأثرته العظمى في هذا الباب أنه أنقذ النقد الفني من «المشرحة الطبية» التي حاول بعض النقاد العلماء أن يردوه إليها ويقصروه عليها، وفي طليعتهم «ماكس نورداو» الطبيب الكاتب المفكر المعروف صاحب كتاب «الانحلال والاضمحلال»، الذي أنحى فيه على عشرات من الأدباء والفنانين بسلاح المشرطة ولغة الوصفات والتحليلات.
وكان هم نورداو أن يثبت على الفنان أعراض المرض كما «يشخصها» من كتاباته وترجمة حياته، ثم يحكم على فنه بالشذوذ والانحلال.
ومن الواضح أن هذه الطريقة كثيرة المزالق، كثيرة الأخطاء؛ لأن إثبات الشذوذ على النوابغ لا يزيد على القول بأن شذوذ المزايا يقترن بشذوذ التركيب، وتعليل الإحساس بعلة مرضية - أو فزيولوجية - لا ينفيه، فقد يكون ورم الجلد علة لفرط الإحساس ، ولا يعني هذا أن الإحساس باطل وأن المحسوس به غير موجود، وقد يقول قائل إن الألماس من الفحم، ولا ينفي بذلك أن الألماس جوهر نفيس، وقديما فهم الناس «أن صاحب العاهة جبار»، وفهموا أن المختلين والمعتلين سر من الأسرار، فلم يكن هذا الأسلوب الجديد من «النقد الطبي» للفن والأدب جديدا في مجموعه، بل الجديد فيه هو تسليطه على الأدباء والفنانين لإنكار آثارهم من طريق المشرحة ووصفات الدواء.
وقد تصدى برنارد شو لهذه المدرسة النقدية فعصف بها عصفا، ومثل بها تمثيلا، قضى عليها في البلاد الإنجليزية والأمريكية على الخصوص، فجاءته المقترحات من كل فج للكتابة في نقد الفنون، ومنها نقد الشعر ونقد الصور والتماثيل ونقد المباني والآثار.
إلا أن تفصيلات النقد في هذه الأبواب لم تسجل له فضلا أكبر من فضله في تصحيح المقاييس وتمحيص الطريقة، ورد النقد العلمي أو النقد الطبي إلى مكانه الأمين.
وقد تقرر مكانه هو في عالم الفن وعالم النقد باتفاق بين النقاد قلما يمتري فيه ناقدان.
ناپیژندل شوی مخ