ونحن نجد في الحياة ألوانا من الاستمتاعات كالثقافة، والطبيعة، والحب الجنسي، والأبوة، والهناء العائلي، والفلسفة، والإنسانية، ونحو ذلك. ولكن يجب أن نعد الصداقة في مقدمة هذه الاستمتاعات، وهي بلا شك استمتاع نادر لأن القادرين عليها - كما قلنا - نادرون، وهم نادرون لأن المجتمع قد ربانا وأنشأنا على الانفرادية الأنانية التي تعوق الصلات الاجتماعية، والصداقة صلة اجتماعية قبل كل شيء.
وكثيرا ما تلتبس علينا القرابة بالصداقة، حتى إننا لنتحمل القريب مهما خطر وفدح ايذاؤه لنا، أو حين تقطع الظروف بيننا وبينه، فلا تكون هناك مشاكلة أو مقاربة في منهج عيشنا أو أهدافنا أو ثقافتنا. ومع ذلك نتكلف له «الصداقة» الجوفاء التي لا تزيد على أن تكون فرضا اجتماعيا نتأفف منه في أعماقنا ولكننا لا نصرح به ، مع أن التصريح به هو خير ما نفعل؛ لأن القرابة مصادفة عمياء قضت بها الطبيعة ولكن الصداقة اختيار وتفعل.
وتبادل الصداقة بين كفئين هو تربية إنسانية عالية كما هو سعادة عظمى أكاد أقول إنها لا تدانيها أية سعادة أخرى، ولست تجد عظيما لهذا السبب إلا وله صديق أو أصدقاء آزروه على أن يبلغ عظمته.
ونحب هنا أن نذكر أصدقاء برنارد شو، فقد كان شخصية فذة وكان له لذلك أصدقاء أفذاذ اختاروه للمشاكلة في الأهداف.
وكان أعظم أصدقائه في هذه الدنيا شارلوت زوجته «التي كان حبه لها أكبر من أن يشتهيها» وقد عاش معها 35 سنة لم ينفصل عنها يوما واحدا، بل لم ينفصل عنها بعد موته؛ فقد أحرق جثمانها وحفظ الرماد في زجاجة، فلما مات هو أوصى بإحراق جثمانه ثم خلط رماده برمادها، وأنفذت الليدي أستور هذه الوصية، ونحن نحس هنا الوفاء في هذه الصداقة الفريدة، بل جمال الفكرة في هذه الأسطورة التي تحمل إلينا في معانيها رمزا إنسانيا نكاد نتذوق جماله ونتنهد لإنسانيته، ونحب أن نقول إنهما كانا يحييان معا بعد الموت في زجاجة على الرغم مما في هذا القول من لغو؛ إذ هو لغو محبب إلى نفوسنا.
ومنذ تزوج برنارد شو انقطع عن أقاربه، بل أقاربه الحميمين، إذ لم يجد فيهم أصدقاء؛ فقد كانت أهدافه غير أهدافهم وأسلوب عيشه غير أسلوبهم. ومن السخف أن يتكلف الصداقة لهم ويرهق نفسه بها في مثل هذه الأحوال، وانقطع أقاربه الحميمون، مثل أمه وأخته، عن زيارته عقب زواجه إلى وفاتهما، ومع أنه كان مثابرا على معونتهما بماله فإنه لم يستطع أن ينسى أنهما سودتا عيشه معهما حين كان لا يزال كما مهملا في هذه الدنيا يعجز عن كسب لقمته.
ولسنا نعرف كثيرا عن علاقته بزوجته سوى الهناء الذي كانا ينعمان به كما كان يبدو عليهما أمام الزائرين والأصدقاء، وكانت هي أديبة غير صغيرة لها بعض المترجمات من الدرامات الفرنسية التي وضع برنارد شو مقدمة لها، وقد عرفته عن طريق صديقيه سيدني ويب وزوجته بالجمعية الفابية، ولزمت فراشه حين كسرت ساقه وهو أعزب، وكانت تعنى به وتمرضه إلى أن برئ حين عقد زواجهما.
وأقرب الأصدقاء إليه بعد زوجته هو وليم آرتشر الأديب الناقد الذي ترجم درامات إبسن من اللغة النرويجية إلى اللغة الإنجليزية، وكان آرتشر عضوا عاملا في جمعية «العقليين» وهي جمعية تناهض الأديان جميعها وتنشر على الجمهور كتبا علمية بأثمان تافهة بل غاية في التفاهة، فقد كانت تبيع كتاب «أصل الأنواع» لداروين بخمسة وعشرين مليما، ونشرت المئات من كتب العلم بهذا الثمن أو بأقل، وعممت التفكير العلمي بين طائفة كبيرة من القراء، ولعل مما يستغربه القارئ المصري أن ج. م. روبرتسون الذي كان صديق مصطفى كامل والذي دافع عن مصر أيام حادث دنشواي، هذا الرجل كان من أقطاب هذه الجمعية وكان داعية الإلحاد في إنجلترا.
ويبدو من الكثير الذي كتبه برنارد شو عن وليم آرتشر أنه عرفه منذ أيام شبابه الأولى، وأنه هو الذي وجهه في حياته الأدبية، أو كان له أكبر تأثير عليه، وكان هبوط برنارد شو على إبسن من أعظم الحظوظ التي لقيها؛ فإنه هو الذي فتح ذهنه لدلالة الدرامة الاجتماعية التي احتضنها شو بعد ذلك وجعلها رسالة حياته.
واشترك الاثنان في التأليف المسرحي، ولكنهما لم يفلحا في ذلك؛ لأن التأليف هنا شخصي، فردي، يستند إلى مزاج وعاطفة كما يستند إلى عقل، وبلغ من دالة شو على صديقه أن وبخه ذات مرة على تقصيره وتخلفه وعزا ذلك إلى زواجه، وكان آرتشر قد تزوج فتاة ذكية تعلق بها كثيرا، وفهم آرتشر من هذا التوبيخ أن شو يدعوه إلى الطلاق أو الانفصال، أو على الأقل النسك، حتى يستعيد كفاءته الأدبية، وغضب وأرسل خطابا إليه يمنعه فيه عن زيارته، وبقيت هذه الجفوة بينهما مدة، ولكنهما عادا إلى الصفاء.
ناپیژندل شوی مخ