وكان «ڤكتور» قد كتب إلى قومه بعد وصوله إلى باريس يقول:
إنه عزم على الإقامة بها شهرين لا شهرا واحدا ليتسنى له رؤية ما اشتملت عليه من الغرائب والعجائب، ثم زعم أنه شديد الرغبة في طلب العلم قوي الميل إلى استكشاف أسرار السياسة، وأنه يروم دراسة القوانين ليصير فقيها فيتأتى له الوصول إلى مرتبة النيابة، ثم تململ من كونه رجلا عطلا لا أثر له ولا فائدة منه أهمل ما آتاه الله من الذكاء ورضي من الحياة بالخمول والكسل، فلم يكن له سؤدد ولا شرف، وجملة قوله أنه طمح إلى المعالي وحدثته نفسه بالمجد، فاختار المقام بباريس لعلمه بأن زوجته صادقة الحب فلن تعارضه فيما يسعى إليه مما يعود بالمجد والفائدة عليها وعليه، وأنه سيدرك أمنيته بعد حين فيستقدم «ماري» إليه لتكون شريكة سعده وقسيمة مجده ورفيقة أنسه بلا خوف من الفراق، وغير ذلك من أنواع الخديعة وضروب الحيلة.
وما نفذت في «ماري» خدعة «ڤكتور» واحتياله، ولا انطلى عليها محاله، ولكنها صبرت على تجنيه ورضيت بما كان يقضيه، فكانت تكتم الغم وتكظم الغيظ منه، ولا تراسله بما يشف عن القلق واشتغال البال، إلا أنها كتبت إليه مرة تذكره بأن مالهما غير كثير، فلا يجوز لهما إنفاقه جزافا وحرمان أولادهما منه، ثم ترجوه موالاة الرسائل، وأن يقدم إليهم لتراه متى أمكنه من ذلك شغله الشاغل الجديد، وهلم جرا مما لا يخرج عن حد التلطف ولا يشعر باختلال الوداد حتى أن «ڤكتور» لما قرأ ذلك الكتاب اغرورقت عيناه بالدمع وأوشك أن يعود إلى بلده، لولا أن جذبته على رغمه جاذبة الهوى، فأقام لدى «أليس» ينشد في حبها بلسان الحال قول من قال:
أقمت كما شاءت وشاء غرامها
لها الذنب لا تجزى به ولي العذر
وفارقت أهلي في هواها وإنني
وإياهم لولا الهوى الماء والخمر
وكان حب الباريسية الحسناء قد سرى في نفس «ڤكتور» سري النار بالضرم، فكان يزورها ما شاء الحب والشوق لا يخاف عذولا، ولا يخشى رقيبا «بما اعتاده كبراء الفرنج مما يسمونه بالحرية أو بسلامة النية وهو بغير ذلك أشبه»، فدخل عليها في خدرها ذات يوم في الساعة الثانية بعد الظهر، ولم يكن هو ذلك الفلاح الساذج المتهيب الأجنبي عن بهارج الزينة وأحوال الاجتماع كما رأيناه من قبل، ولكنه كان غيسانيا مترفا منعما لبيبا مليح الشباب، كامل معاني الحسن، شائق الرواء، رشيق الحركة بلا كلفة ولا اكتساب، وممن يأخذون بالأسباب ويعظمون في أنفس الناظرين ما لم يكونوا لهم من الحاسدين:
يزيدك وجهه حسنا
إذا ما زدته نظرا
ناپیژندل شوی مخ