لهم صديق اسمه عيسى حامد ثري غاية الثراء، بخيل كز غاية البخل والكزازة، ويتمتع شأن كل بخيل بصفاقة يشهد له بها جميع رواد المقهى. يأتي في كل ليلة ويمر على المناضد واحدة بعد أخرى، وتدعوه كل منضدة إلى كأس أو كأسين يشربه أو يشربهما وينتقل إلى منضدة أخرى، فما إن تنتهي دورته على المناضد حتى يكون قد نال من الويسكي كفايته دون أن ينفق مليما واحدا. وفي ليلة مر كعادته بمنضدة سعدون، وكان لسان سعدون قد بدأ يتلوى من الخمر فيبدو كأن الويسكي قد تعتعه فنادى بأعلى صوته: مانولي!
فجاء القاهي: أفندم سعادة البك؟ - حسابنا كله الليلة عند عيسى بك حامد.
وزلزل عيسى زلزالا شديدا: ماذا؟! - أي ماذا يا أخي؟! أنت كل يوم تأتي إلى المقهى وتسكر مجانا وتروح. ادفع مرة الحساب عن نفسك، ألا تحب أن تشعر مرة بلذة السكر على نفقتك الخاصة؟ - ولكن هذا ظلم يا سعدون بك. - الظلم ما أفعله أنا بك أم ما تعمله أنت في زبائن المقهى كل ليلة؟ خف ولا تثقل حتى لا يضيق بك أصحابك ورفاق كأسك.
وهكذا كان يفعل سعدون كلما عن له أن يصارح أحد الجالسين معه برأيه فيه، فكان أصدقاؤه يحبون مجالسته كل الحب، ويضحكون مما يفعله ويقوله.
وقد ارتاح سعدون كل الارتياح للصفقة التي أتمها مع هارون، وحين عاد إلى زوجته بعد إتمام الصفقة أخبرها بها فإذا هي تقول: مبروك يا سعدون ولكن لماذا نسيتني؟ - كيف؟ - أرضي. - أليست أرضك مع عطا الله أفندي والحاج وافي؟ - إنها معهما بناء على عقد بيع صوري، ولا أحصل منهما إلا على مبالغ ضئيلة. فلم لا تؤجر الأرض لهارون ويدفع لي مثلما يدفع له؟ - والله فكرة. •••
كان عثمان الزهار يدرك أن ليس له إلا بنت واحدة، وكان يملك مائة فدان، لو مات عنها ما ورثت ابنته إلا نصف الأرض، ويشاركها أخوه مجدي وأخته تفيدة في النصف الآخر. فتشاور مع زوجته بهية على أن يبيع أرضه مناصفة لعطا الله أفندي وللحاج وافي، ويكتب كل منهما على نفسه وصل أمانة بقيمة الأرض. واستحسنت بهية الفكرة، ونفذها عثمان فعلا وسجل الأرض، ولم يمر على تسجيل الأرض سنة حتى كان عثمان قد انتقل إلى رحمة الله قبل أن يشهد ثورة 52. •••
أما عبد الهادي فقد شهد ثورة 52، ولحق به قانون الإصلاح الزراعي الأول. وكان يملك سبعين فدانا فلم يكن واقعا تحت طائلة القانون، ولكنه أدرك بإلهام لا يدري مأتاه أن الأمر لن يقف بالثورة عند هذا، فقال لابنه سعدون: أرى ألا نبقي لك أكثر من خمسين فدانا. - تريد أن تبيع عشرين فدانا؟ - نبيعها ولا نبيعها. - يجب أن تكون واثقا من المشترين. - لقد فكرت فيهم فعلا. - إبراهيم أفندي جندية ومن؟ - أنا لا أريد أن أبيع للشخص الواحد أكثر من خمسة أفدنة. - كلام معقول. - طبعا سأبيع خمسة أفدنة لوالي قطب. - طبعا هذا واحد منا. - وما رأيك في الاثنين الآخرين؟ - موجودان. - من؟ - ما رأيك في الشيخ متولي وبلال أفندي؟ - ونعم. - على بركة الله. - على بركة الله.
وتم البيع الصوري لكل هؤلاء فعلا، ولكن استمر عبد الهادي يزرع حتى توفي. وحين ورث سعدون الأرض ظل الأمر على ما كان أيام أبيه، ولم يجد هارون أيه صعوبة في تسلم الأفدنة السبعين كاملة بما فيها العشرون فدانا المبيعة بيعا صوريا. •••
أما الحاج حامد بركات والد هارون فكان لا يملك إلا بيتا في عابدين وأربعين فدانا، وحين صدر قانون الإصلاح الزراعي الأول باع أرضه كلها لابنه هارون حتى يعفيه من ضريبة التركات. وكان هارون في ذلك الحين قد ترك الدراسة وبقي في الأرض يفلحها ويحاول أن يسدد الديون المتراكمة عليها لبنك التسليف. ولم يكن الأمر سهلا، ولكنه بذكائه الشديد استطاع أن يجعل أموره تسير. وكان هارون في ذلك الحين في الخامسة والعشرين من عمره، ولكن درايته بإدارة السلفيات وتأجيلها والحصول على سلفة جديدة لتسديد سلفة قديمة حل موعدها، كانت دارية واسعة مكنته ومكنت أباه وأمه أن يعيشوا عيشة ميسرة. وحين تمكن من عقد صفقته مع سعدون أحس أنه على أبواب الغنى الذي يسعى له سعيا حثيثا، لا يرده عنه شيء، ولا يقف في سبيل وصوله إليه حائل، مهما يكن هذا الحائل متصلا بالنزاهة أو غيرها.
الفصل الثالث
ناپیژندل شوی مخ