وفي شقة باب اللوق استعاد محمد شخصيته المفقودة؛ مضى يتكلم بعد عكوف طويل على المناجاة الباطنية، وتمت لقاءات كثيرة بينه وبين أصدقائه القدامى. وقال له أحدهم مرة في مكتبه: الرئيس الجديد صديق.
فقال محمد بحذر: ليكن اعتمادنا على أنفسنا! - العدالة تزحف حتى شملت الإقطاعيين أنفسهم.
فراح يذكرهم بتجربة الماضي الخائبة، ووافقه على ذلك شفيق. أما سهام فأساءت الظن بالعهد الجديد منذ تم النصر لرئيسه، لا ترديدا لأقوال صفوت فقط، ولكن لأنها بلغت الغاية في تطورها الجديد، حتى الدين اقتلع من قلبها. واشتد شعورها بالغربة في أسرتها، وشعرت بتهديد خفي يحدق بأمنها وهي بينهم حتى قالت لنفسها مرة: هذه الشقة لا ينقصها إلا مؤذن كي تصير مسجدا.
وقد آنست من أحد مدرسيها ميلا نحوها حتى كاشفها يوما برغبته في الزواج منها. وذعرت بشدة، وأخبرته بأنها «محجوزة»، مشفقة في الوقت نفسه من ترامي الخبر على أهلها؛ لذلك فكلما ذكر للزواج سيرة كانت تقول على سبيل الاحتياط للمستقبل: لن أفكر في ذلك حتى أكمل دراستي!
وتبلورت في عقلها خطة للمستقبل وهي أن تتزوج من عزيز ولو اضطرت إلى إبلاغ والديها من بعيد، بالمراسلة! وزادتها الأيام ثقة في حبيبها ومعرفة بجوانب حسنة فيه. فهو يحبها بصدق لا تخطئه غريزتها، وهو جاد كل الجد في تمسكه بمبدئه، وحتى غضبه على أعدائه مبطن برومانسية موهوبة لإنسانية لم توجد بعد. ثم إنه إنسان، يتذوق الشعر والموسيقى ويحب الكلاب. ولكن شد ما حقد على الرئيس الجديد! وقال لها مرة: إنه مقلب لم يجر لنا في خاطر، وهو دائب على مغازلة الرجعية العربية والغربية!
وضاعف من قلق سهام أن رؤيتها السياسية الجديدة لم تعد سرا مصونا، فمن الانسياق في الأحاديث المتبادلة بينها وبين زميلاتها في قسم اللغة الإنجليزية أفلتت تعليقات شتى تنم عن حقيقتها، فضلا عن أن واحدة منهن على الأقل لمحتها في الجيزة بصحبة عزيز صفوت . أما أسرة منيرة بالعباسية فقد مضت حياتها فيما يشبه الهدوء. أجل أثار مشاعرها نبأ خروج زاهية من السجن، حتى تساءل علي ساخرا: ألا يقضي الواجب بزيارة فيلا المعادي للتهنئة؟!
ولكن منيرة كانت شفيت تماما من سليمان بهجت، وسلمت أيضا بفقد عبد الناصر فاستغرقها تماما عملها الرسمي ونشاطها الخاص في مكتبتها. وتبدت في وقار كهولة بشعرها الأبيض وجمالها الذابل كأنما تماثل أمها في العمر أو تزيد عليها. ولم تلق بالا لعتاب أمها وهي تسألها: ما الذي يجعلك تبقين على هذا الشيب المبكر؟!
وسعد أمين وهند بخطبتهما وهما بعيدان عن موعد المشكلات، وغرق علي في بحر العسل الذي يستحلبه في أحضان ميرفت. غير أن «ناصرية» منيرة وأمين انتبهت منزعجة وهي في سبات الحداد على همسات تتردد أحيانا بالنقد لعصر الزعيم الراحل، قالت على مسمع من أمين: يا لها من وقاحة!
فقال أمين بامتعاض: لا عجب فنحن نسير في طريق جديد!
ولكن ما المخرج من المشكلة الأساسية المتجسدة في الجبهة؟! أجل ثمة شعور بالأمان وسيادة القانون، وثمة غزل للديمقراطية، ولكن الجو راكد والغد محجوب بغمامة قاتمة. ونفد صبر الأعصاب فانفجرت مظاهرات في الجامعة، وبلغت درجة من الخطورة قبل أن تتلاشى في السكينة من جديد. واختلفت المواقف بين الأحفاد؛ فاشترك في المظاهرات أمين وسهام بدافعين مختلفين متقاربين، واشترك علي بلا دافع على الإطلاق، أما شفيق فانسحب إلى قاعدة المتفرجين. ورجع ذات مساء - في أثناء الاضطرابات - إلى أسرته بباب اللوق مضطربا شاحب اللون، جلس مع أسرته في حجرة المعيشة ثم قال بتأثر بالغ: عزيز صفوت قتل!
ناپیژندل شوی مخ