بکائیات: ست ډمعات په عربی نفس
بكائيات: ست دمعات على نفس عربية
ژانرونه
كيف نسترد المقدرة على الحب والاحترام، على الأقل لمن هم أولى الناس أن نضعهم في حبات عيوننا وقلوبنا؟ إلى متى نظل أعدى أعداء أنفسنا؟ وإلى متى نختنق بالصغار والادعاء وتطاول بعضنا على بعض؟ هل كتب على الموهوبين أن يكونوا دائما ضحية الحطابين الفقراء من كل موهبة؟ وإذا صح ما يقوله الحلاج في هذه البكائية «يقتل كل الشعراء بكل بلاد الله» فهل كتب علينا أن نكون أبشع البلاد قتلا لأبنائنا المبدعين في كل مجال؟! ألا يكفي أننا مهزومون حتى نهزم أنفسنا بأنفسنا؟ أنحاول برفع أصواتنا القبيحة أن نتصامم عن أصوات أخرى أولى بأن ننتبه إليها: أصوات الآلات والحفارات التي تقيم المستعمرات والمستوطنات على أرضنا السلبية. وأقدام العدو التي تدوس جثثنا الممدودة بلا وعي ولا حياة؟ ألم تدق ساعة العمل التي توقف طاحونة القول التي سحقت كرامتنا، وتوشك أن تسحق وجودنا نفسه؟ وإذا كان قدر الأدباء والكتاب أن يتكلموا ويكتبوا، فمتى تصبح كلمتهم فعلا وكتابتهم عملا أو دليلا يهدي إلى عمل؟ متى نتعلم من عذاب صلاح ورحيله أن الجو الذي تعيش فيه هو أحسن الجو الذي لفظت فيه حضارات منقرضة آخر أنفاسنا وأننا محتاجون - هنا والآن - لجو جديد يقوم على الحرية والحوار واحترام الإنسان والعمل المبني على المنهج والعلم والحب ؟
أسئلة كثيرة لا أستطيع أنا ولا من هم أفضل مني من الواقفين في الصف نفسه الذي وقف فيه صلاح أن نكتمها عن أمتنا. فمتى تفتح عينيك وعقلك يا شعبي المسكين؟ ومتى تستيقظ للخطر الأكبر يا وطني الأكبر؟ •••
ومما قيل إن الراحل العزيز لم يلتزم بالتقدمية كما يفهمها أنصارها أو أدعياؤها. ولكن لا شك أنه بقي محاربا صلبا للإرهاب والاستبداد والتسلط بكل صوره، وأنه ربما تعاطف مع التقدمية لو أنها لم تأت على أيدي الجلادين بمختلف أشكالهم. لقد ظل عدوا لكل قهر أو إلزام. لا لأن الإلزام شر أخلاقي فحسب، بل لأنه - كشاعر - لا بد أن يرتاب في كل من يؤيده تحت أي شعار أو تبرير أو تعميم.
إن الشاعر لا يكون شاعرا جيدا أو رديئا؛ لأنه تقدمي أو أيديولوجي، بل لأنه قبل ذلك شاعر أو غير شاعر. والفن ليس دعاية، ولا يجب أن يكون. ولكن ببغاوات العصر والسلطة التي تحكم قبضتها على أجهزة الدعاية تريد من الشعراء أن يكونوا دعاة. فلا عجب أن يصطدم الشاعر والفنان صاحب الضمير الحر والرؤية المستقلة بمثل هذه السلطة (التي يضطر أن يكسب لقمته في ظلها)، ولا عجب أن ترتاب هي أيضا فيه وتسلط ببغاواتها لنهش لحمه والتربص به. ولكن القيم الفنية لا تخضع للقيم السياسية، والموهبة المبدعة لن تكون حرة إذا وضعت يدها في قيود الاعتقاد المذهبي. ربما تقول الأجيال الجديدة من النقاد أن صلاحا وجيله ظلوا ثوريين رومانتيكيين في شعرهم ونثرهم وفرديين في رؤيتهم للحياة، قد يكون هذا صحيحا، وله أسبابه التاريخية والاجتماعية. ولكن هذه الأجيال - التي نتمنى أن تكون أسعد حظا منا - لا تستطيع أن تجردهم من إخلاصهم ووطنيتهم وصدقهم مع أنفسهم ودفاعهم عن قضية الحرية والعدل بمعناها الفني والإنساني الشامل. لا شك أن للفن دوره في المجتمع، وهو في النهاية نتاج هذا المجتمع. ولكن اغتراب الفنان العربي عن مجتمعه في السنوات الثلاثين أو العشرين الأخيرة ظاهرة واقعة تستحق الدراسة لا الإدانة. ويجب ألا ننسى أن الفن المغترب فن سياسي أيضا، مهما ابتعد عن سياسة معينة، وهو في النهاية تعبير عن مختلف الضغوط التي جثمت على صدر الفنان وألجأته للاغتراب والاختناق بالعذاب والحزن والصمت، وبدلا من أن نقول ينبغي أن يكون شعرك أو فنك كذا وكذا، علينا أن نكافح لإزالة القيود عن طريق الشاعر والفنان، وخلق المناخ الذي يستطيع أن يبدع فيه، ويتحمل مسئوليته. إن الفنان إنسان قبل أن يكون صاحب مذهب. والوظيفة الأولى للشعر ولكل الفنون هي أن تجعلنا أعمق وعيا بإنسانيتنا وبالعالم المحيط بنا. لا أدري إن كان هذا الوعي سيجعلنا أكثر أخلاقية أو أكثر فعالية، ولكنه سيجعلنا بالتأكيد أكثر إنسانية. يكفينا من الشاعر أنه ينبهنا إلى الوحوش التي تسعى في زحام المدينة (بشر الحافي) أو الوحش الذي يحكم عليها بالموت، وهو نفسه جثة ميتة (بعد أن يموت الملك). أما خطة العمل التي تجعلنا نتخلص منهم فليست وظيفته. إن الشعراء بطبيعة اهتماماتهم وصنعتهم الفنية - كما يقول «أودن» في مقاله عن الشاعر والمدينة - غير مهيئين لفهم أمور السياسة أو الاقتصاد. إن اهتمامهم الطبيعي ينصب على الأفراد والعلاقات والتجارب الشخصية. بينما السياسة والاقتصاد يهتمان بأعداد كبيرة من الناس، أي بالمتوسط البشري (والشاعر يضيق إلى حد الموت بفكرة الإنسان العادي) والعلاقات غير الشخصية وغير الإرادية إلى حد كبير. إنه يحدثنا عن مدن المستقبل لا عن أزمات البطالة والتضخم والإسكان، عن معاناة الإنسان في مجتمعاتنا الحديثة التي يتضاءل فيها ويتشوه «ويتشيأ» ويغترب ويمتحن في كل لحظة في إنسانيته ووجوده الحقيقي الأصيل، لا عن العامل والفلاح والموظف ومشكلاتهم المحدودة. ورسالته هي تغيير ضمير الفرد وقلبه ووعيه، أما تغيير ظروفه الواقعية فأمر متروك للسياسة والعلماء والمصلحين. إنه يطرق أبواب الخلاص لا أبواب الإصلاح. ويأخذ بأيدينا على طريق الحقيقة لا طريق الواقع المحسوس. والمهم - وليس هذا دليلا - أن يكون أمينا وصادقا وقريبا من قلوبنا.
أليس أمام الشعر إذا فرصة للفعل والتغيير؟ أكان يمكن أن يظل العالم على ما هو عليه لو خلا من كل الشعراء؟ أوليست قضية العدل الاجتماعي أهم من كل قضايا الفن وأنصاف المظلومين والمضطهدين ؟ أليس أجدى من عشرات الملاحم والدواوين؟ ولكن المشكلة تكمن في فهمنا لمعنى الفعل والتأثير، لا شك أن العالم كان سيفتقر إلى الحرية والعدل والجمال - أكثر من فقره المزمن فيها - لو خلا من أمثال هوميروس ودانتي والمتنبي والمعري وشكسبير وجوته وموزار وبيتهوفن وشوقي وسيد درويش، ولا شك أن واقعنا كان سيبدو أكثر قتامة وبؤسا لو خلا من صلاح وزملائه المجددين والمتمردين، لقد قدموا لنا الشهادة الحقيقية على ظلم واقعنا وظلامه وتفاهته وتمزقه، أما الفعل المؤثر الذي يغير منه فقد يأتي أو لا يأتي على أيدي غيرهم. والمهم أن قصائدهم نفسها «أفعال» باقية في عالمنا، قيم مؤثرة على قلوبنا وعقولنا، تعطينا الحماية والأمان الخلقي والعقلي والوجداني، وتزيدنا وعيا بإنسانيتنا. إن المثل الأعلى للشاعر والإنسان هو الذي يقترب من وحدة الشعور والعقل، والفكر والفعل. فكيف نتهمه في ظل القهر والتمزق بأنه حزين وسلبي؟ أليس تجسيدا نقيا لحريتنا ووحدتنا المفقودة، لعذابنا وتعذيبنا لأنفسنا؟ والمجتمع الأمثل هو الذي يكفل الحرية الكاملة للاختيار الأخلاقي، فهل في بلادنا نظام واحد وحيد يسمح بهذا المجتمع اللائق بالإنسان؟ إن الدعائي الثرثار ورجل السلطة الحديدي يتهمان الشاعر بأنه يعزف ألحانه في الوقت الذي تحترق فيه روما (هذا إن كانا يشعران بأنها تحترق!) وهما يطالبانه بأن يستغل قدرته على صوغ الكلمات في إقناع الناس بما ينبغي أن يفعلوه. ولكن مهمة الشعر ليست هي إخبار الناس بما يفعلون، بل مهمته - كما قدمت - هي تعميق معرفتنا بأنفسنا وبالعالم الحقيقي: بالخير والشر، بالجمال والقبح، بالحرية والعبودية، ربما استطاع بذلك أن يجعل ضرورة الفعل أكثر إلحاحا، وأن يجعل طبيعته أكثر وضوحا، بحيث يقودنا إلى اتخاذ القرار العقلي والعملي والأخلاقي الحر، ومع ذلك فلا بد أن نقتصد في الكلام عن رسالة الشعر والتزام الشاعر ... إلخ، وغير ذلك مما ضيعنا فيه السنين الطويلة بلا ملل أو كلل. ولا بد أن نقول لأولئك الذين يتجهون للشعر طلبا لرسالة أو برنامج إصلاح: إنكم تطرقون الباب الخاطئ، ولا بد أن نقول لهم أيضا إن الشعر يضيء ويكشف، ولكنه لا يملى ولا يعلم. إن الفنان لا «يحدث» شيئا بمعنى الفعل المباشر، اللهم إلا أن يجعلنا نؤمن بالحياة، ونفرح بها، ونمجدها، ويزيدنا وعيا بالحرية الإنسانية؛ لأن مجاله كما قلت هو عالم القلب لا عالم السياسة والاقتصاد.
إن المعذبين في الأرض (بتشديد الذال المكسورة) قد أرهقوا صلاح عبد الصبور بالكلمات الضخمة والشعارات الغليظة شأن كهان الأروقة الكذبة والحطابين الفقراء مع كل فنان ناجح موهوب. طالبوه بأن يعبر عن أفكارهم هم، أن يضع آراءهم هم في شعره، فأي تعذيب للضمير الحر أقسى من هذا التعذيب؟ إن المجتمع الموحد في العاطفة والأهداف والكرامة والآمال هو الذي يمكن أن يتفجر بالأدب الناضج والشعر الصادق، هذا المجتمع الموحد الذي يكون فيه كل الأفراد كالبحارة المشاركين في شد حبال السفينة هو الذي يحلم به الشاعر. فلنوحد مجتمعنا العربي. ولننهض به من حضيض التخلف، ولندار جراح كرامته قبل أن نتهم الشاعر وندينه بسؤالنا: لماذا أنت حزين؟
إن الحياة كل واحد مؤلف من وحدات كلية، تتألف بدورها من وحدات كلية أصغر. هناك العضو المفرد، والفرد الإنساني، وهناك الفرد والأسرة، والأمة والعالم، وكلها بنيان أو منظومة، أو مجموعات على علاقة بمجموعات أكبر. وكل مجموعة على حدة مختلفة عن سواها. لكن ليس لها معنى إلا في علاقتها بالمجموعات الأخرى. ليس هناك كل بغير الجزء، ولا أي جزء بغير الكل. وكذلك ليس الكل مجرد محصلة للأجزاء. وإنما هو شيء جديد. هذه مسلمات استقرت اليوم في العقل الحديث، فلماذا نكررها هنا؟ لأنه يحدث في بعض الأحيان أن يعمل الجزء وكأنه ليس جزءا من كل أكبر منه (كما في النشاط السرطاني في الجسم الحي)، والنتيجة في هذه الحالة هي المرض المميت والتدهور والانهيار. هذا ما حدث للمجتمع البشري عبر التاريخ، وهو ما حدث لمجتمعنا العربي في السنوات الأخيرة. فقد الجزء صلته بالكل، فقد المجتمع صلته الحميمة بالمجتمع المجاور له، انفصل كل فرد واغترب عن كل فرد، تورمت الأجزاء وبعض «الكلات» أو الوحدات الصغرى تورما سرطانيا وغفلت عن علاقتها بالكل، وفقد الوطن الأكبر علاقته العضوية بالعالم الذي يعيش فيه. والنتيجة؟ هذا التمزق والضياع والانتحار المنذر بالانقراض، وسط هذا الخراب يقف الشاعر وحده. يواجه الزلزال والمباني المتصدعة، عاريا في مهب الرياح والأعاصير، يقف وحيدا عاريا ليقول لنا: أنتم محبوسون داخل أنفسكم، معزولون عن بعضكم. تائهون عن الحقيقة. تسعون وراء الشمس، والشمس في ظهوركم. لا كل في نظركم إلا الأنا الصغيرة الأنانية. إني أعيدكم للكل، أرجع العضو لجسده، والفرد لمجتمعه، والمجتمع لوطنه الأكبر، والوطن للعالم والإنسانية. أنا ضمير التاريخ المثقل بالذنب. هل يسمع صوتي؟ هل تتركني حشرات السلطات والشعارات لأتم أغنيتي؟ عودوا للكل، لإنسانيتكم، لوعيكم، لعالمكم، لحقيقتكم. أنا شاعر المحبة أقول لكم وأتنبأ بالموت وأبشر بالميلاد. قوموا. احتجوا، اختاروا وتحملوا مسئولية الاختيار. اهتزوا. اقشعروا من فرقتكم وهوانكم. افعلوا شيئا. انفجروا أو موتوا. أنا الشاعر. ضعيف ومعرض للخطر، أقول كلمتي وأتحطم. عشت أنادي بمجتمع الحرية والعدل، وأحارب الهوان والقهر، وأحذر من رعب أكبر من هذا سوف يجيء، تحركوا على صوتي كما يحرك البحارة أيديهم بالمجاديف على إيقاع الأغنية المنطلقة من واحد منهم، فيتحرك المركب الواحد، ويشق صدر الموج والريح. تذكروا انهيار الدولة العباسية، وتمزق دويلات المرابطين. إن الحرية والعدل والديمقراطية والعقل مهددة. بل هي في الواقع تخرب كل يوم. يجب علينا أن نختار، يجب على كل منا. قد تكون نظمنا سيئة ولا أمل فيها على الإطلاق، لكن لا يمكن أن يخرب الإنسان تماما. ولهذا أتجه إليه وأتعذب من أجله. لعلكم تحلمون معي وتعملون في سبيل مجتمع جديد، مجتمع يكون كل فرد فيه قادرا على الحب والفهم، حتى ولو لم يحبني أحد ولم يفهمني أحد. أنا لا أنصح ولا أصلح الكون، وإنما أقدم التجارب والحكايات والأمثلة، وعلى كل أن يستخلص منها نتائجه. أنا وقت مفقود بين الوقتين، جسر مشدود بين الماضي والمستقبل. تذكروا يا من تعبرون علينا، أننا تعذبنا هنا من أجلكم، لكيلا تنتهوا نهايتنا، وليكون حظكم أسعد من حظنا. أضنتني شهوة إصلاح العالم . تمنيت أن أترك هذا العالم خيرا مما كان عليه قبل مجيئي. لكن القدرة كانت محدودة، والأيام ضنينة فاذكرني يا من تأتي بعدي، واحفظ عهد الشعر، وعاهدني أن تتسامح وتكافح.
نوفمبر 1981م
الدمعة الخامسة: أوفيليا: ماذا فعلوا بك؟
على الموج الهادئ الأسود، حيث تنعس النجوم
ناپیژندل شوی مخ