فأجابت بديعة بصوتها الرزين مبتسمة: قولي «ما الذي» وليس «من الذي» يا عزيزتي؛ لأن اضطراري إلى السفر هو من الظروف الحاكمة. - ليس للظروف شأن بسفرنا ولا لحكمها يد به؛ لأن ذهابنا بملء إرادتنا وهو لأجل التقدم والربح والرجوع بغنائم الكسب كما رجع غيرنا. - إذن إن الظروف هي التي تحملنا على تحمل مشاق السفر والابتعاد عن أوطاننا وما فيها من الأحباء، فلو كانت والدتك ووالدتي في قيد الحياة، أو لو كانت ظروفنا تساعدنا على المعيشة براحة وعزة نفس؛ لما كنا نفضل التغرب على البقاء في الوطن الذي نحبه ونحب من فيه يا لوسيا. - هذا ما أسلم معك به، ولكن هل أنت تعيسة لسفرك وهو السعادة بعينها؟ - ومن أين عرفت هذا؟ - إن هذا معروف من الدلائل الظاهرة؛ فإن إبدال شيء قبيح بآخر حسن مما يسر لا يحزن. - وهل إبدال أمريكا بوطننا المحبوب من هذا القبيل؟ - من وجه ما نعم؛ لأن الناس يقولون بأن أمريكا هي أم الحرية والإخاء والمساواة، وأيامنا هذه أيام «مال»، فهو الكل في الكل، ومتى توفر للإنسان لا يعود يسأل عن الأصل أو الأدب أو الشرف؛ لأنه هو ينوب عن كل هذه الأشياء. - ما أوسع جنانك يا لوسيا وما أطلق لسانك! فإنك بالحقيقة خطيبة شهيرة، ولكن ليس هذا مقامك بين الجرار، فدعينا من هذا كله، وقولي من أين عرفت كل هذا عن أمريكا وأنت بعيدة عنها ألوف الأميال؟
فتحمست لوسيا وقالت بشيء من الغيط والتشبث في الرأي: هلمي بنا نرجع الآن، ومتى أقبلنا على القرية أريك بأن تهكمك خطأ يا بديعة؛ إذ تقرئين فضل أمريكا على وطننا مكتوبا بأحرف من نور على جدران كل منزل من منازلها.
فقامت البنات - إذ سمعن كلام لوسيا - إلى جرارهن وحملنها وصعدن هذه المرة، وقد نابت أفكارهن عن ألسنتهن فلم يثبن ولم يتكلمن كما في المرة الأولى؛ لأن مناكبهن كانت مؤلمة تحت ثقل أحمالهن، وهل يقدر الإنسان أن يجود بغير ماله؟! وكانت الفتيات بين معجبة بكلام لوسيا، ومشتاقة إلى مرأى أمريكا، وهازئة بهذه «الفلسفة»، ومفضلة الاستملاء من العين في كل ليلة على ألف أمريكا. ومع أنهن اختلفن رأيا وفكرا، فقد تساوين بخلو الفكر والقلب مما يزعجهما، ولم يكن منهن من تفتكر في أمر ذي بال غير لوسيا بسرورها بالسفر إلى أمريكا وبديعة بما هو أعظم من هذا بكثير.
ولم تنس بديعة قول لوسيا الأخير لها، فلما أطلت على القرية وظهرت منها الأنوار قالت للوسيا: يجب أن تقيمي بوعدك. فقالت لوسيا: هذا ما أفعله بسرور، فهل ترين تلك الأنوار المضاءة بهذه الدور الثلاث أكثر من الجميع؟ أجابت بديعة: نعم. قالت: إنك تعرفين هذه الدور لمن؟ - إنها لثلاثة إخوة، بنوها من سنوات، هذا كل ما أعرفه عنها. - وأنا أتمم لك ما بقي من تاريخها؛ فإن أبا هؤلاء الإخوة كان شريكا عند أحد الأغنياء فتوفي مخلفا ثلاثة صبيان وبنتا وأرملة تعيسة، طردت بعد موته بأيام بدعوى أن أولادها صغار ولا تقدر على العناية «بالرزق» والقيام به، فلم يكن من ملجأ لها غير الخدمة ولا لأولادها غير التكفف، فاقتصدت من خدمتها وتكفف أولادها قيمة جواز السفر، فسافرت إلى أمريكا تاركة أولادها على أبواب الناس. ولم تمض عليها سنة حتى أرسلت ستين ليرة «لمعلمها» أو الرجل الذي كانت تشتغل في أرضه لكي يرسل إليها أولادها. فأرسلهم ومكثوا جميعا عشر سنوات في أمريكا، ثم رجعوا وهم غير أولئك «الشحاذين»؛ لأنهم أتوا بمال كثير لم يعرف مبلغه، فتزوجوا بأحسن بنات البلدة، وأحدهم اقترن بابنة معلم وصار الناس ينادونهم «خواجات» بعدما كانوا أولئك «الشحاذين». وبنوا هذه الدور الثلاث التي هي أجمل دور البلدة. فهل يا ترى كانت موجودة لولا أمريكا؟ وهل كان يتخطر أهلها بالملابس الفاخرة، ويجارون أعاظم الناس بالتمدن والتفرنج وكل شيء لولا أمريكا؟ أو هل كان أضيف إلى الطبقة العالية في هذه القرية ثلاث دور وثلاثة «وجهاء» لولا أمريكا؟ فهذه أمريكا «تعمل» الناس بمعمل المال والتمدن، فيصبحون شيئا مذكورا بعد أن يكونوا نسيا منسيا.
ولما أنهت لوسيا كلامها الذي لفظته بحماسة زائدة صادق البنات كلهن عليه، إلا واحدة منهن قالت: تحيرنا من سرور لوسيا وسعادتها بالسفر، فهي تؤمل أن تذهب إلى أمريكا لترجع ظافرة بالمال الكثير وتتزوج أحسن عريس في البلد.
فأجابت لوسيا بقلة اكتراث: لا يا أختي، إن هذا ليس قصدي، بل إنني فتاة أحب التقدم المادي والأدبي، ولا أرى شيئا صعبا على الوصول إلى غايتي ومطلبي. إذ ذاك تكلمت بديعة فقالت: «ما أسهل القول قبل الفعل والعمل» يا لوسيا! فإن المستقبل لله، وما أدراك فلربما نلقى التعاسة عوضا عن السعادة بسفرتنا هذه؛ لأنه قد قيل:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن - إن كلامك غير مقبول عندي يا بديعة؛ لأن السعادة بأمريكا أمر مقرر لوجود المال بكثرة، وأما بيت المتنبي فلا أعتبره كثيرا؛ لأنه على رأي أحدهم قد نظمه في أيام كانت الريح تقدم وتؤخر؛ إذ كانت المراكب شراعية، وأما في أيامنا هذه فهي بخارية. - إذا كنت تحسبين يا أختي أن السعادة بالمال وحده، فأملي وطيد بأنك إن اجتهدت تكونين سعيدة. وأما أنا فإني أعتقد بصوابية بيت المتنبي لا فض فوه؛ إذ إنني لا أحسب السعادة بالمال حتى ولا هي بشيء آخر معلوم، بل هي بما يسر الإنسان. وقد تكون السعادة في الفقر أحيانا. ثم تنهدت وهي تعرف ما تجهله لوسيا عن السعادة. ثم نظرت إلى لوسيا ضاحكة وقالت: أظن أن رفيقاتنا ضجرن من حديثنا حتى ابتعدن عنا.
وهكذا كان لأن الفتيات ابتعدن عنهن وأخذن يغنين بأصوات رخيمة يحملها نسيم تلك الليلة إلى حيث يشاركهن فيها الملائكة، ولما وصلن إلى «باب القرية» ذهبت كل واحدة منهن إلى بيتها. وفي ثاني يوم اجتمعن ثانية في بيت لوسيا يودعنها ويودعن بديعة بعيون دامعات تقابلها عيون الفتاتين المحمرة من البكاء أيضا، وكانت لوسيا تطمئن قلوب البنات قائلة: لا تبكين يا عزيزاتي؛ فإننا نجتمع بعد سنتين إذا أراد الله. وهذه أفكار كل مهاجر يترك وطنه، ولكن هيهات أن تتم!
الفصل الثاني
ناپیژندل شوی مخ