وإذ سمعت والدتها منها هذا الكلام اقتربت وقبلتها بحرارة قائلة: حفظك الله لي ابنة نافعة فاضلة؛ فإن عذاباتي الماضية كلها لا تحسب عندي شيئا مقابل سعادتي بك الآن.
الفصل الحادي والأربعون
رأي بديعة مخالف لرأي والدتها
ومع سرور بديعة بوالدتها ، لم تنس قط همها العظيم وحزنها لجهة فؤاد، وكانت معذبة القلب من حمل همها وحدها، وتريد مشاركة والدتها به؛ لأنها كانت فتاة بالغة حد الكمال الممكن، ولا تحب أن يفوتها واجب من واجبات الفضيلة، وكانت تعرف بأنه لا سر في الحياة تقدر أن تكتمه البنت عن أمها متى كانت في بيتها، ولا عن زوجها متى انتقلت إلى بيته، ولا تعد مخطئة لأن الوالدين أصدق الأصدقاء، ولعمري أي صديق أو حبيب في العالم يضحي لأجل شخص ما، ما تضحيه الأم لأجل ولدها؟
فإفشاء الأسرار للأم ومشاركتها بها واجبان لثلاثة أسباب؛ الأول: لأن المهم يجد دائما بأنه عاجز عن حمل همومه وحده، ويشعر إبان هذه الوحدة باحتياجه إلى تسلية وإرشاد، وإذ إنه من التعقل والفائدة أن لا يسلم الإنسان أسرار نفسه إلا لمن يعتقد بحبهم، ويعرف بأن هذه الأسرار متعلقة بهم كما في المشتكى، لا يرى الولد غير الأم ذات علاقة أولى واهتمام صادق به. والثاني: لأن الفتاة متى كانت لم تزل تحت سلطة والدتها تكون مطالبة بالأمانة نحوها، وواجب هذه الأمانة يقضي على الفتاة بأن لا تأتي أمرا بغير علم والدتها به. والثالث: لأن المثل العامي يقول: «من هو أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة.» وهذا صواب متى تساوى الاستعداد وتقابلت الوسائط إلا في ظروف نادرة حيث يسبق الصغير بالمعرفة الكبير.
ولعمري أين هي معرفة الفتاة التي تكون حديثة عهد السير على طريق مجهولة منها من معرفة الأم التي قطعت نصفها بل كلها؛ لأن أعظم عقبة تعترض الفتاة في طريقها هي عقبة «الحب والزواج»، والوالدة تكون مرت عليها واختبرنها. وأية فتاة لا تسلم بالقول بأن البنت التي تكون تجهل طريقا ما ولا تسأل من قد سلكها قبلها عنها إما حياء وإما كبرياء وإما استقلالا بالرأي، تكون تعيسة وجاهلة؟ هذه كانت أفكار بديعة بهمومها، ولكنها كانت فتاة محبة لوالدتها، وعرفت بأن قصتها محزنة، فمن الحكمة أن تصبر عن مفاتحتها بها إلى بعد انقشاع بعض غيوم تعاستها.
وفي أحد الأيام جلست بديعة في نافذة الغرفة التي كانت أجمل ما في القصر برياشها وترتيبها، ولما أدارت وجها في تلك الغرفة تنهدت قائلة: يا له من فرق عظيم بين الفقر والغنى ... إن السيد المسيح له المجد لما قال: «لا تعبدوا ربين الله والمال.» أراد أن يذكر الإنسان بما سيقدم عليه من حبه للمال حتى ينسيه عبادة خالقه، فلو كنت أنا بحالتي الحاضرة حينما خطبني فؤاد، أكانت فعلت والدته ما فعلت بي وأنا خادمة؟ كلا! مع أنها صرحت باعتبارها لآدابي إذ ذاك، وبحبها لي، ولكن كل ذلك لم يهم لأنني لم أكن غنية، فلو رأتني الآن لكانت تدعي بأن القرب مني مفخرة ... وأنا لم أزل كما كنت ولكن هو المال ... هو المال الذي يهب الخامل شرفا ويجر بواسطته الجاهل ذيولا من المعرفة والعلم يدعيها لنفسه، ويصادق على ادعائه الناس وإن لم يروها ويشهدون زورا بما لا يعرفون! المال، يصير القبيح جميلا والغبي ذكيا والشرس صالحا؛ لأن خطاياه مغفورة بقوة المال. ولكن ليس هذا ما يسرني؛ فإنني أحب كل شيء طبيعي - كل شيء جميل - كل جوهر لا عرض. ولما أحبني فؤاد وأنا خادمة اعتبرت محبته جدا، وكنت سعيدة بها ذلك لأنني عرفت صدقها. ولكن لو كنت بحالتي الحاضرة إذ ذاك لكنت في شك دائم من تلك المحبة ولم أصدقها، ولكنت في خوف من حبه لمالي أكثر مما هو لحالي، وعند هذا فتح الباب ودخلت والدتها ودلائل الفرح بادية على وجهها.
قالت الوالدة بسرور: إن عائلة من الأصدقاء تكون هنا بعد وقت، فيجب أن تستعدي لملاقاتهم يا بديعة وناولتها علبة صغيرة مغلفة بالمخمل الأحمر الجميل. فقالت بديعة: ما هذه يا أمي؟ أجابت الوالدة: هذه هي العلبة التي أعطتني إياها والدتي حينما رجعت من المدرسة، وفيها كثير من الحلي النفيسة، فاختاري منها ما يعجبك؛ لأن قاعة الاستقبال ستكون ملآنة من الضيوف الليلة، ويجب أن تظهري بأجمل مظاهرك.
فتناولت بديعة العلبة، ووضعتها على طاولة بالقرب منها، وقالت لوالدتها مبتسمة: إنك غير مصيبة يا سيدتي؛ لأن الحلي للسيدات المتزوجات وليس للفتيات مثلي، وكل ما أطلبه لأظهر «بأجمل مظاهري» كما ترغبين هو ثوب أبيض بسيط وزهرة واحدة جميلة، وباعتقادي أنني إذا كنت جميلة حقيقة فمن الخطأ أن أطلب زيادة عن صنع الله من صنع يد الإنسان، وإذا لم أكن جميلة فكل الدنيا وجواهرها لا تجعلني جميلة. ومن العبث أن أطلب الجمال المتأتي عن الحلي والذي هو جمال يكشف القبح الطبيعي.
فنظرت والدتها إليها بشيء من النفور لأول مرة وقالت لها: ما هذه الطباع يا بديعة؟ فإن أول شروط الموضة اليوم الإكثار من الحلي، وبالحقيقة إنها أجمل ما تتزين به المرأة.
ناپیژندل شوی مخ