فلم يبق إلا أن يكون الأزهر شقيق الهم، وحليف الغم، لا يدخله امرؤ إلا تقوس ظهره، وتقوض عمره، ولا يفزع إليه فتى إلا تزعزع كيانه، وتضعضع بنيانه.
وهو - بفضل إغفال الحكومة - جدير بأن يقتل كل شاب تضمه جدرانه، ويذهب بكل بصر ينظر فيه صفحة من كتاب، أو فقرة من خطاب، وكذلك لن يزال - بفضل الشيوخ - مبعثا لظلم العواطف، وقتل المشاعر، يقرءون فيه العلم، فيتعرفون به الظلم، ويتدارسون فيه أخبار الأسلاف، فيئنون من جور الأخلاف.
كانت مدة الدراسة في الأزهر الذي وصفناه اثني عشر عاما، فرأت المشيخة أنها لا تكفي لتضييع العمر، وتقويس الظهر، فزادتها أعواما ثلاثة فصارت خمسة عشر.
من هذا يشكو إخواننا طلبة الأقسام النظامية، في المعاهد الدينية، وقد رأت لجنتنا الجديدة، أن لا تنام لها عين، ولا يهدأ لها قلب، حتى ترجع المشيخة عن هذا القرار الظالم، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.
2
إن طلاب الأزهر لا يعرفون غير متاعب الحياة؛ فهم في سني الدراسة يعانون الآلام بين الكتب المعقدة، والدروس المتعددة، ثم إذا اجتازوا عقبات الامتحان، بعد العمر الطويل، والهم الجزيل، دخلوا في حياة لا حظ لهم فيها غير حظ الأعزل من النصر، في ميدان كله رماح طوال، وسيوف صقال ... وهل بعد ذبول الأغصان، وكلال الأجفان وتقوس الظهر، وتقوض العمر؛ غرض يرجى نواله، أو هم يبتغى زواله.
هؤلاء هم الأزهريون الذين كانوا يملئون البلاد علما وحكمة لو أتيح لهم التغلب على مصاعب النظام القديم والحديث، هؤلاء هم الأزهريون الذين كانوا مادة الحياة العلمية في عصر الظلمات، وهم أصل النور في هذا العهد الجديد، هؤلاء الأزهريون ينادون بملء أفواههم أن خذوا بيدنا أيها القائمون بالأمر، فلا يستمع لهم أحد، ولكن أيغلب اليأس الرجاء ويغدو الأمل صريع القنوط؟ إن هذا لبعيد.
3
نقول الآن - وسنظل على هذا الرأي حتى حين - إن النبوغ الذي امتاز به بعض الأزهريين في الزمن القديم أو الحديث، ليس أثرا من آثار الإدارة التي تولاها زعماؤه الأقدمون أو المحدثون، ولكنه أثر من آثار الذكاء الذي انفرد به بعض الشبان الذين هيأت لهم ظروف خاصة أن يخرجوا على التقاليد البالية، وأن يشاركوا جمهور المبدعين في العلم والأدب، وأن يتركوا لأنفسهم أثرا يذكرون به في العالمين.
فإن كنت في شك من صواب هذا الرأي فاقرأ - إن شئت - تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وانظر كيف تأثر بالتعاليم الحديثة حتى صار علما يهتدى به، أو احضر دروس الأستاذ الشيخ يوسف الدجوي؛ لترى كيف استعان الفلسفة الحديثة، لفهم الفلسفة القديمة، أو خالط النابغين من علماء الأزهر الآن، فإنك لن ترى نبوغهم مصبوغا بصبغة العلوم التي يتلقونها في ذلك المعهد القديم، بل تراه مطبوعا بطابع الزمن الذي يعيش فيه، والذي كان يجب أن يكون التعليم في الأزهر مصبوغا به ومطبوعا عليه لو وجد هذا المعهد من يعنى به من زعماء الإصلاح.
ناپیژندل شوی مخ