تدخل في هذا المسجد الجامع، فلا يروقك فيه شيء، أرض منخفضة، وسقف غير مرفوع، وأعمدة قصيرة كأعمدة المقابر، وحيطان قاتمة كحيطان الأجداث، ونوافذ بخيلة بالضوء، ضنينة بالهواء، ومصابيح ضئيلة، لا تقتل الظلمة، ولا تكشف الغمة، وهو أحوج إلى أكبر منها في النهار المبصر، فكيف به في الليل المظلم، لا فرش له إلا الحصير الممزق والتراب المكدس، والناس فيه ما بين آمل غير واجد، أو زارع غير حاصد، لا طمع لهم في مناصب الحكومة، ولا أمل لهم في إسعاد الأمة، وقد يئسوا من إنصاف الوزراء، وإنجاد الأمراء.
ثم تراهم لا يصدقون أن لهم شيوخا يعطفون عليهم، أو رجالا يرأفون بهم، فهم لا يعرفون آباء غير آبائهم، ولا أعماما غير أعمامهم، وكذلك ينكرون جميعا قول الشاعر:
أقدم أستاذي على نفس والدي
وإن نالني من والدي العز والشرف
فذاك مربي الروح والروح جوهر
وهذا مربي الجسم والجسم كالصدف
إنهم لا يعرفون هذا الشعر؛ لأن الشيخ الذي سلف، والشيخ الذي خلف؛ لم يرفعا عنهم شيئا من الضر، ولم يسوقا إليهم نوعا من الخير، فهم اليوم مثلهم بالأمس، أكثر شقاء وهما، وأكبر عناء وغما؛ لأنهم يرون الناس في تقدم، ويرون أنفسهم في تأخر، ويرون المدارس يعمها العدل، والأزهر يخصه الظلم.
ثم يرون لكل شهادة أثرا في الحياة، وقيمة في الوجود، ويرون شهادتهم ورقة لا كالورق، فهي مزينة، ولكن بالمواعيد الكاذبة، ومزخرفة، ولكن بالأيمان الحانثة، حتى كأنها قطعة من معاهدة الصلح لا يضمن لمن أنصفته سلام، ولا يرجى لمن نصرته قيام، وحتى كأن مجلس المشيخة هو مجلس الشيوخ، وهم قد شبعوا من المجد الموهوم، والشرف المعدوم، فما عادوا يصدقون بأن شهادة الأهلية أو شهادة العالمية، حرز من الفقر، وأمان من الدهر.
ثم هم فكروا طويلا في انتسابهم إلى الأمة المصرية والسلالة العربية، ولولا أن الأجانب يصفو عيشهم على ضفاف النيل، وفي سفح الأهرام؛ لظنوا أنفسهم من الجاليات الأوروبية أو الأمريكية.
وقد بحثوا كذلك في سبب شقائهم، ومصدر بلائهم، فلم يهتدوا إلى موجب صحيح، أو داع معقول، اللهم إلا حياء ظنه الناس من الجبن، وحلما حسبوه من الذلة، وهم لا يستطيعون أن يرجعوا ذلك إلى حبهم للوطن وعشقهم للحرية، وبغضهم للظلم، فإن ذلك مشترك بين عامة الناس وشائع في كافة الأجناس.
ناپیژندل شوی مخ