بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّخْيِيرِ بَاطِلٌ عِنْدَ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِهِمَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَعِنْدَ عَدَمِ الْإِمْكَانِ أَصْلًا، وَرَأْسًا لَا يُخَيَّرُ أَيْضًا، بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، ثُمَّ الْكَعْبَانِ يَدْخُلَانِ فِي الْغَسْلِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَدْخُلَانِ، وَالْكَلَامُ فِي الْكَعْبَيْنِ عَلَى نَحْوِ الْكَلَامِ فِي الْمِرْفَقَيْنِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ.
، وَالْكَعْبَانِ هُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ فِي أَسْفَلِ السَّاقِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْأَصْحَابِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ لِأَنَّ الْكَعْبَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا عَلَا وَارْتَفَعَ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْكَعْبَةُ كَعْبَةً، وَأَصْلُهُ مِنْ كَعْبِ الْقَنَاةِ، وَهُوَ أُنْبُوبُهَا سُمِّيَ بِهِ لِارْتِفَاعِهِ.
وَتُسَمَّى الْجَارِيَةُ النَّاهِدَةُ الثَّدْيَيْنِ كَاعِبًا لِارْتِفَاعِ ثَدْيَيْهَا، وَكَذَا فِي الْعُرْفِ يُفْهَمُ مِنْهُ النَّاتِئُ، يُقَالُ ضَرَبَ كَعْبَ فُلَانٍ، وَفِي الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ فِي تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ فِي الصَّلَاةِ: «أَلْصِقُوا الْكِعَابَ بِالْكِعَابِ» وَلَمْ يَتَحَقَّقْ مَعْنَى الْإِلْصَاقِ إلَّا فِي النَّاتِئِ، وَمَا رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ الْمِفْصَلُ الَّذِي عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، إنَّمَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي مَسْأَلَةِ الْمُحْرِمِ إذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ، أَنَّهُ يَقْطَعُ الْخُفَّ أَسْفَلَ الْكَعْبِ، فَقَالَ: إنَّ الْكَعْبَ هَهُنَا الَّذِي فِي مِفْصَلِ الْقَدَمِ فَنَقَلَ هِشَامٌ ذَلِكَ إلَى الطَّهَارَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ إذَا كَانَتَا بَادِيَتَيْنِ لَا عُذْرَ بِهِمَا، فَأَمَّا إذَا كَانَتَا مَسْتُورَتَيْنِ بِالْخُفِّ، أَوْ كَانَ بِهِمَا عُذْرٌ مِنْ كَسْرٍ، أَوْ جُرْحٍ، أَوْ قُرْحٍ، فَوَظِيفَتُهُمَا الْمَسْحُ، فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي الْأَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ.
وَالثَّانِي: فِي الْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ.
[فَصْلٌ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ]
(فَصْلٌ) أَمَّا الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ جَوَازِهِ، وَفِي بَيَانِ مُدَّتِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِهِ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَنْقُضُهُ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا انْتَقَضَ.
(أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ جَائِزٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ ﵃ إلَّا شَيْئًا قَلِيلًا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵁ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ الرَّافِضَةِ وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُقِيمِ، وَاحْتَجَّ مَنْ أَنْكَرَ الْمَسْحَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: ٦] فَقِرَاءَةُ النَّصْبِ تَقْتَضِي وُجُوبَ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ مُطْلَقًا عَنْ الْأَحْوَالِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَرْجُلَ مَعْطُوفَةً عَلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، وَهِيَ مَغْسُولَةٌ، فَكَذَا الْأَرْجُلُ، وَقِرَاءَةُ الْخَفْضِ تَقْتَضِي وُجُوبَ الْمَسْحِ عَلَى الرِّجْلَيْنِ لَا عَلَى الْخُفَّيْنِ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَلْ مَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى الْخُفَّيْنِ؟ فَقَالَ: «وَاَللَّهِ مَا مَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى الْخُفَّيْنِ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ»، وَلَأَنْ أَمْسَحَ عَلَى ظَهْرِ عِيرٍ فِي الْفَلَاةِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ رِوَايَةٍ قَالَ: لَأَنْ أَمْسَحَ عَلَى جِلْدِ حِمَارٍ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «يَمْسَحُ الْمُقِيمُ عَلَى الْخُفَّيْنِ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا»، وَهَذَا حَدِيثٌ مَشْهُورٌ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ مِثْلِ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ،، وَخُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَصَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ، وَعَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، وَأَبِي عُمَارَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ ﵃ حَتَّى قَالَ أَبُو يُوسُفَ: خَبَرُ مَسْحِ الْخُفَّيْنِ يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِمِثْلِهِ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: إنَّمَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ إذَا وَرَدَتْ كَوُرُودِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَكَذَا الصَّحَابَةُ ﵃ أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ قَوْلًا، وَفِعْلًا، حَتَّى رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَدْرَكْتُ سَبْعِينَ بَدْرِيًّا مِنْ الصَّحَابَةِ كُلُّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَلِهَذَا رَآهُ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ شَرَائِطِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَقَالَ فِيهَا: أَنْ تُفَضِّلَ الشَّيْخَيْنِ، وَتُحِبَّ الْخَتَنَيْنِ، وَأَنْ تَرَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَأَنْ لَا تُحَرِّمَ نَبِيذَ التَّمْرِ؛ يَعْنِي: الْمُثَلَّثَ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا قُلْتُ: بِالْمَسْحِ حَتَّى جَاءَنِي فِيهِ مِثْلُ ضَوْءِ النَّهَارِ فَكَانَ الْجُحُودُ رَدًّا عَلَى كِبَارِ الصَّحَابَةِ، وَنِسْبَةَ إيَّاهُمْ إلَى الْخَطَأِ، فَكَانَ بِدْعَةً، فَلِهَذَا قَالَ الْكَرْخِيُّ: أَخَافُ الْكُفْرَ عَلَى مَنْ لَا يَرَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ﵁ أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا أَنَّ الْمَسْحَ لَا خُلْفَ فِيهِ مَا مَسَحْنَا وَدَلَّ قَوْلُهُ هَذَا عَلَى أَنَّ خِلَافَ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا يَكَادُ يَصِحُّ؛ وَلِأَنَّ الْأُمَّةَ لَمْ تَخْتَلِفْ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مَسَحَ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا أَنَّهُ مَسَحَ قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ، أَوْ بَعْدَهَا، وَلَنَا فِي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، حَتَّى قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: حَدَّثَنِي سَبْعُونَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ «أَنَّهُمْ رَأَوْهُ يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ» .
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ﵄ أَنَّ «النَّبِيَّ ﷺ
1 / 7