وفي عامه الأول نصحه بأن يبذر حبوبه في أرض رطبة، فعمل القروي بنصيحته، وكان الجو من حسن حظه جافا؛ فأنتجت الأرض محصولا جيدا، فتمكن من ملء مخازنه، وأصبح لديه كميات وافرة من القمح تزيد عن حاجاته، وفي عامه التالي عاد إليه الشيطان ينصحه بأن يبذر حبوبه على ربوة من الأرض، ثم جاء وقت الحصاد وكان الصيف رطبا؛ فاستفاد القروي من النصيحة وتوفر لديه شيء كثير من القمح يربو عما جناه في عامه السابق، فحار في أمره ولم يدر ماذا يصنع بكل ذلك القمح الكثير، فوسوس إليه الشيطان أن يستخرج منه نوعا من الخمر ففعل، وكان الخمر المستخرج قويا شديد التأثير، فسر بهذا الاكتشاف وأخذ يشرب منه هو وزوجته، وأهدى إلى أصدقائه الشيء الكثير.
عند ذلك ذهب الشيطان إلى رئيسه فرحا مستبشرا وقص عليه ما فعله لإغواء القروي، فقام إبليس مسرعا ليشاهد الأمر بنفسه، ويتحقق صدق مقاله، ولما وصلا إلى منزل القروي وجدا أن صاحب المنزل يستعد لحفلة ساهرة، دعا فيها كل جيرانه الأعزاء، ثم رأيا وفود المدعوين تقبل إلى المنزل زرافات ووحدانا، وصاحبة الدار قائمة بخدمتهم تقدم لهم كئوس الخمر، وبينما كانت تدور عليهم بالأواني إذا بها قد تعثرت فوقعت الأواني من يدها، وسال الخمر على الأرض، فاحتدم زوجها غضبا، وصاح بها يقول: «ما الذي دهاك أيتها العسراء حتى أهرقت هذه الخمرة اللذيذة على بساط الغرفة؟! أظننت أن ما بين يديك من ماء البئر؛ حتى أخذت في إتلافه وإسرافه؟!»
وما كاد الشيطان يسمع هذه الكلمات حتى غمز رئيسه قائلا: «أسامع أنت كلام ذلك القروي الساذج الذي لم يهتم لفقد كسرة الخبز؟!» وبينما كان القروي ينتهر امرأته ويلومها على فعلتها؛ إذا بقروي فقير دخل عليهم متطفلا واستوى جالسا على المائدة ينتظر إكرام صاحب الدار، ولما طال به الجلوس تململ صاحب المنزل من جلوسه وتمتم يقول: «أنا ليس في وسعي أن أقدم شرابا لكل من يتطفل على موائدنا.» فسمع إبليس هذه الكلمات وسر في نفسه بهذه النتيجة إلا أن تلميذه قال وهو يبتسم: «انتظر قليلا فسوف ترى ما هو أعجب!» وفعلا ما كاد يتم قوله هذا حتى كان القوم أخذتهم نشوة الخمر، فأصبحوا يخادعون بعضهم البعض بألفاظ ملؤها الملق والرياء، عند ذلك قال إبليس: «إذا كان بعض الخمر يجعلهم على هذه الحال يروغون كالثعالب، ويتملقون بعضهم البعض، ولكنك سوف تراهم عقب الكأس الثانية كالذئاب المفترسة ينهشون لحوم بعضهم البعض.»
فما أتم الشيطان هذه الكلمات حتى كان الشراب يدور على القوم ثانية، ثم ارتفعت من بينهم دواعي الحشمة وأصبحوا يتبادلون وحشي الكلام وقبيح الألفاظ، ثم أدى بهم الأمر إلى المضاربة، فالملاكمة، فتلألأ وجه إبليس بشرا، وهنأ تلميذه بذلك الفوز الباهر قائلا: «هذه هي الخطوة الأولى في سبيل النصر.» فأجابه تلميذه: «انتظر حتى النهاية تر ما هو أغرب، فإنهم الآن كالذئاب يكاد أحدهم يفترس صديقه، ولكنك سوف تراهم كالخنازير عقب الكأس الثالثة.»
عندها دارت الكئوس عليهم مرة ثالثة، فعلت أصواتهم وزاد صخبهم، وأصبح كل منهم يلعن ويشتم بلا سبب ومن غير داع، وبعد برهة وجيزة انفرط عقد جمعهم وأخذوا ينسلون من مكان الدعوة جماعات ووحدانا، يترنحون سكرا ويتمايلون ذات اليمين وذات الشمال، ثم ذهب المضيف أثرهم ليشيعهم، ولكنه ما كاد يخطو بضع خطوات حتى تعثر في مشيته، فوقع في حفرة مملوءة بالأوحال، وتلطخ بها من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، فازداد إبليس لهذا المنظر بهجة وسرورا، والتفت إلى تلميذه يقول: «لله درك! فلقد كان نجاحك باهرا وفوزك مبينا، ولكن، خبرني: كيف صنعت هذا الشراب؟! فلا ريب أنك أضفت إليه بضع نقط من دم الثعالب؛ وهذا ما حدا بهم لأن يروغوا ويتملقوا بعضهم البعض في الكأس الأولى! ثم أظن أنك أضفت إليه بعضا من دم الذئاب؛ إذ كان نتيجة ذلك أنهم أصبحوا كالذئاب العاوية! وأخالك أتممت العمل بوضع نقط من دم الخنزير حتى أصبحوا يماثلون الخنازير عقب الكأس الثالثة.»
فقال الشيطان: «كلا، فإنك لم تصب كبد الحقيقة، فليست هي الطريقة، وكل ما في الأمر أني بذلت ما في وسعي لأن أجعل ذلك القروي يملك حبوبا أكثر مما يحتاج إليها؛ فالإنسان يجول في عروقه دماء الحيوانية على الدوام، وتظل هذه الغريزة كامنة في نفسه طالما كان يملك من حطام الدنيا أقل من ضرورياته، يدلك على ذلك ما أظهره القروي عندما تحرشت به في مبدأ الأمر، ولكنه ما كاد يتوفر لديه أكثر مما يحتاج إليه حتى عماه الغنى وتمادى به الغرور، فأخذ يبحث عن دواعي الملاهي والسرور، وهنا سنحت الفرصة لإغوائه؛ فأخذت بيده إلى طريقة من طريق الغواية؛ إذ أرشدته إلى صنع الخمر، فاستلذها المسكين لسوء حظه، وشربها عذبة سائغة، فكان في ذلك كالساعي إلى حتفه بظلفه، فإنه ما كاد يكفر بأنعم الله حين أعطيته خمرة تذهب برشده حتى ظهر ما كمن في نفسه من تلك الدماء الخبيثة - دماء الحيوانية - فأصبح وحشا ضاريا بعد أن كان بشرا سويا، وهو يظل كذلك وحشا مفترسا بعيدا عن مناهج الإنسانية طالما يعاقر تلك المادة الدنسة.»
الحكاية السادسة
ثلاثة أسئلة
أراد أحد الملوك مرة أن يقف على إجابة ثلاثة أسئلة جالت بخاطره، وظن أنه إن تم له ذلك فلا يكون الفشل حليفه قط في أي مشروع يأخذ على عاتقه القيام به، وما كاد هذا الفكر يستقر في فؤاده حتى أعلن في طول البلاد وعرضها أن من يجيب الملك على أسئلته الثلاثة الآتية ينال جائزة قيمة، أما الأسئلة فهي: (1)
كيف يعرف الإنسان الوقت المناسب للشروع في أي عمل؟ (2)
ناپیژندل شوی مخ