91

صلى الله عليه وسلم

وافق زوجته على ما رأت من إسعاف أهله في نفس الليلة بما جاءها من الطعام. فأرسلت إلى كل بيت كيلا عاجلا من كل صنف ورد على أن تقسم بقية ما جاء بالعدل والرحمة في الغد. أما الثياب فتركت أمرها إلى الغد كذلك حتى ترى حاجة كل بيت منها فتوزعها عليهم تبعا لذلك.

مضى يومان بعد هذا، والقافلة يحرس سوقها حراس من المشركين، ولكنهم لم يروا أحدا من بني عبد المطلب دنا من السوق؛ ليشتري طعاما أو يلتمس خرقة. فتعجبوا لهذا أيما عجب، ولكن لم يطل عجبهم كثيرا فقد أخذوا يتبينون الحقيقة شيئا فشيئا من روايات بعض أهل القافلة. خبرهم بعض تجارها أنهم لا يرون عير اليهود الرحل، وأنهم يرجحون أنهم باعوا تجارتهم لبني عبد المطلب وانصرفوا، وقال بعضهم: إنهم رأوهم يتأخرون عن القافلة ساعة دخول مكة، ولا بد أن يكون هذا تدبيرا منهم للذهاب ببضاعتهم إلى شعب أبي طالب على الفور، وادعى بعضهم كذبا أنهم كانوا يعلمون أنهم قادمون بطعام وثياب خصيصا لعشيرة أبي طالب، وقال غيرهم بل لعشيرة محمد بن عبد الله عينا، وأتى على ذلك ببراهين وشواهد كاذبة ليدعم بها روايته. فسقط في يد أهل الصحيفة المشركين، وكادوا يتميزون من الغيظ؛ لحبوط ما دبروا، وودوا لو يستطيعون إدراك عير اليهود القافل، ولكنهم كانوا قد رحلوا عن مكة قبل أن تعرف قريش أمرهم بيومين، بل لو خرجوا وراءهم في حينه ما أدركوهم؛ لأنهم كانوا قد أخذوا طريقا آخر غير طريق البر إلى اليمن، وهو ما كانت قريش تسلكه؛ لتدركهم، وإنما فعل العير ذلك؛ ليستبضعوا لبني هاشم شعيرا وسمنا من أسواق جدة وجيرتها بعد ما علموا من سوء حالتهم، وإجماع المشركين على إجاعتهم وإذلالهم، وإمكان أن يستفيدوا من هذا الحادث ربحا مضاعفا. على أنهم كوفئوا على حسن النية خيرا معجلا؛ ذلك أنهم لم يرحلوا خفافا، بل رحلوا محملين، وكان لهم في الحالين أكرم أجر، وإليك ما جرى.

الفصل السابع والعشرون

الهجرة إلى الحبشة

أجمعت قريش رأيها على أن تقاطع كل مسلم كذلك، وتلحقه ببني عبد المطلب في الأذى. فلما جاع المسلمون وكادوا يعرون - أذن لهم رسول الله في الهجرة بأولادهم ونسائهم إلى الحبشة؛ إذ كان لهم فيها ملك كريم عرفوا من إخوانهم السابقين إليها أنه مال إلى الإسلام، فأكرمهم أيما إكرام، ولكنهم ما كانوا يجدون جمالا تنقلهم إلى حيث يركبون البحر إلى بلاد هذا الملك الذي وفقه الله إلى الخير، وانتظروا القافلة، ولكنهم أدركوا أنهم لن يستطيعوا أن يستأجروا شيئا منها؛ لأن قريشا قد أنذرت أهلها وضربت عليهم الحصار، ولذلك ظلوا يتحينون الفرص حتى حانت من حيث لا يعلمون. ذلك بأن ورقة لما ذهب إلى بيته وجد في انتظاره في البيت رجلين من المؤمنين لم يكن في الإمكان حبس الخير عنهما، ألا وهما عبد الله بن مسعود خادم رسول الله، وبلال بن رباح عتيق أبي بكر الصديق، وكانا كثيري التردد على أخيهما في الإسلام باقوم الرومي. فلما اجتمعا به قبلاه ودعوا له بالخير جزاء حسن صنيعه وجهاده في سبيل نبيه! وذكرا له ما يلقى المسلمون من الأذى من قريش، وأن منهم من استأذنوا رسول الله في الهجرة إلى الحبشة كما هاجر إخوانهم من قبل؛ ليحموا ذرية المسلمين من الفناء مرضا وجوعا، ولكنهم لا يجدون جمالا. قال ورقة: هذه جمالي فخذوها لمن يريد، وهناك أربعون جملا أخرى تعود إلى اليمن في صبيحة هذه الليلة، إن شئتم جعلتها لهم، على أن يرحل الراحلون في الصباح لا ينتظرون ولا يتلومون خشية أن تعرف قريش من أمرها ما تجهل حتى الساعة فتعاقب أصحابها على ما فعلوا من أجل بيت الرسول.

فلما سمع الرجلان هذا الكلام كبرا لله شكرا وحمدا، ونهضا إلى بيوت من كان في نيتهم الرحيل من المسلمين، وأكدا لورقة أنه إن ذهب إلى العير القافل، فاستقدم البعران في موهن الليل إلى داره، فسيلقيانه ليفرقاها على بيوت الراحلين. على هذا اتفقوا، ونهضوا لهذا الأمر، وذهب ورقة على حمار كان باقوم قد اشتراه ليحمله، حتى بلغ عير اليهود، وأخبرهم بما اتفقوا عليه، فشكروا له سعيه، وكان الجمالة أشد رغبة من سادتهم في ذلك لما علموا من فرط بر المسلمين، وإحسانهم لقاء ما يحسن الناس إليهم وإن كان ضئيلا.

جاء بهم ورقة فعلا، وكان الليل قد انتصف، وأهل مكة كلهم نياما إلا من اتفق معهم بلال وعبد الله، فقد شكروا لهما هذا السعي، ونهضوا من فراشهم يعدون أحمال الرحيل، وما أحمالهم إذ ذاك بالأمر الكبير، حتى إذا جاء الجمالة بالجمال رحلوها وركبوها، وساروا قبل السحر يلتمسون جدة؛ ليأخذوا طريق الشاطئ على أقرب مرفأ تحملهم مراكبه إلى بلاد الملك الطيب.

كان الذين رحلوا في تلك الليلة وما قبلها حوالي مائة من المسلمين،

1

ناپیژندل شوی مخ