59

أكرمه، وأن أكبر الظن أنه

صلى الله عليه وسلم

مشى فيها هو وخليفته الصديق أبو بكر وصحبه ممن سعدوا بنعمة الإسلام في أوائل أيامه: عثمان بن عفان وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وعلي بن أبي طالب وطلحة بن عبيد الله وطليب بن عمير بن وهب، ومن كان في مكة يومئذ من المسلمين وعدتهم إذ ذاك قرابة الأربعين، منهم: أبو ذر وبلال وزيد بن حارثة وعمرو بن عبيسة السلمي وخالد بن سعيد بن العاص وعثمان بن مظعون، ولم يكن العباس ولا حمزة ولا بعض أخوة علي بن أبي طالب قد أسلموا بعد، ولكنهم لم يكونوا في فريق المشركين بل انحازوا إلى مصاف رسول الله هم وأبو طالب، وكنت ترى من مشركي مكة يومئذ أبا عمرو بن هشام وأبا لهب وعمر بن الخطاب وعمرو بن العاص قبل إسلامهما وأبا زمعة الأسود بن عبد يغوث وعقبة بن معيط وعبته بن ربيعة وأبا سفيان بن عبد الحارث بن عبد المطلب وأبا سفيان بن حرب بن أمية والحكم بن أبي العاص وسعيد بن العاص والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث ولبيد بن ربيعه ... ومئات غيرهم من أعلام مكة يومئذ، وكان يحمل النعش منهم سادة القبائل وزعماء البيوت؛ فتعاوره أبو طالب وأبو بكر وعمر وأبو سفيان بن حرب والوليد بن المغيرة وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام وأمية بن خلف الجمحي وغيرهم.

فلما بلغوا المعلاة وأرادوا دفنه فيه ظهر لهم من تحت النعش غلام لم يبلغ العشرين بعد، وقال بصوت محزون مكبود: رويدكم يا قوم، وصية أبلغها وأمنية للراحل أعلنها! فالتفت الجمع ليروا من القائل فإذا به ورقة بن العفيفة. فقالوا له: ما خطبك يا غلام؟ قال: لقد كان ابن نوفل يقول لي: إنه أوصى أن يدفن بجوار صاحبه زيد بن عمرو بن نفيل في حراء وما حراء من هنا ببعيد. أليس فيكم يا قوم من سمع وصاته غيري؟ لقد كنت منه كولده وكان كأبي، وإني وحق الله لصادق. فبرز سعيد بن زيد يقول: بلى لقد سمعته بأذني يقول هذا، ورأيت أبي وابن نوفل يتواصيان بهذا. ولقد كان النضر بن الحارث معي في مجلسه ساعة قال هذا. قال النضر: حقا تقول يا ابن زيد هو عهد تواصيا عليه في حراء يوم الحجر الأسود، وقال عثمان بن مظعون: هو والله ما قال ابن العفيفة لقد كان ابن نفيل يئن من جراحه يومئذ ويطلب إلى ابن نوفل ألا يفارقه فأقسم هذا لن يفارقه، وأوصى إن هو استؤخر عنه أن يدفن إلى جواره. فسيروا بنا إلى حراء ندفنه حيث دفن الخطاب ابن أخيه يوم قتلته غلمانه رميا بالأحجار من أجل قوله الحق في محمد رسول الله. هذان رجلان ملآ الدنيا سماحة وهدى، وألقيا في ظلمات العقول نورا، كانا في الدنيا صديقين ولهداية الناس إلى الحق متحالفين فليرقدا اليوم بالقبر متجاورين!

لم يجد المشيعون بدا بعد هذا من تحقيق وصاة الرجل بدفنه في حراء، فساروا به إلى حيث دفن ابن نفيل وشقوا له في جواره لحدا وواروه التراب، ثم قام الخطباء فأبنوه وعادوا إلى بيوتهم في العشي، ثم إلى أنديتهم حول الكعبة يتذاكرون.

أما ورقة فلم يعد في العائدين، وبقي على القبر يبكي سيده ويندبه حتى إذا افتقدته سيدته أم المؤمنين، وعلمت بنبأه أرسلت إليه زيد بن حارثة - وكان غلامها الذي وهبته لرسول الله - وأوصته أن يأخذه إلى داره مترفقا، ويرحله في الغد إلى هدى؛ ليصرف همه بعيدا عن موارده من مكة، وإذ خشيت إن هو سار إلى هدى من طريق حراء أن يعرج على قبر سيده أمرت زيدا أن يخرج به من طريق أجياد

3

ولو بعد، وأن يصحبه إلى ما وراء مكة عائدا إلى مصيف أستاذه.

فعل زيد كما أمرت سيدته، وقضى الليلة معه في بيته يسليه بالأحاديث، ولم يجد زيد أنفى للهم الحاضر من هم جديد فأخذ يذكر له ما جرى في مكة من الأحداث في غيبته؛ إذ صدع رسول الله بأمر ربه بين عشيرته الأقربين فتبعه خلق كثيرون، وذكر له من أحداث تلك الأيام ما فعل المشركون بمستضعفي المسلمين؛ إذ جعلوا يحسبونهم، ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش ورمضاء مكة؛ ليفتنوهم عن دينهم، ولكنهم كانوا يتصلبون فيه، ويعصمهم الله من الافتتان والرجعى إلى عبادة الأوثان. ذكر أمية بن خلف الجمحي؛ إذ علم بإسلام غلامه بلال بن رباح فكان إذا حميت الشمس وقت الظهيرة يلقيه في الرمضاء على وجهه وظهره، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتلقى على صدره ويقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، فلا يقول إلا قولة المسلم: أحد. أحد، وهو صابر لا يفتنه البلاء، وكان فقيد اليوم يمر به وهو يعذب، ويقول قولته هذه: أحد. أحد، والله يا بلال.

4

ناپیژندل شوی مخ