لم يكن لأحد بعد هذا الإيضاح أن يتردد في النزول على رأي الحارث، ومن ذا الذي كان يشك في صواب حكمه، وهو أشهر طبيب في الجزيرة العربية بأجمعها، ولذلك أقره ابن نوفل وباقوم نفسه، ورضي بقضاء الله، ورجا من الطبيب أن يشرع في بتره على الفور، وقال: إنه يرغب أن يعيش من أجل تماضر وولدها ورقة الذي يحبه حبا شديدا، ويخشى عليه نكبات الأيام. ثم مد رجله مستسلما، وأغمض عينيه حتى لا يرى دموعا كانت تتراءى بها عيون تماضر وورقة وسيده ابن نوفل نفسه.
استعد الحارث لعمله فأخرج مشرطه من جرابه وغسله وأحرقه، ثم طلب إلى نوفل وورقة أن يمسكا بساق الرجل وأعلى قدمه حتى لا تتحرك تحت المشرط، ففعلا، وشرع الحارث في عمله فجرح وقطع، وهم جميعا معجبون بتجلد الرجل وصبره؛ لأنه لم يصرخ إلا مرة وسكت. على أنه كان قد أغمي عليه من شدة الألم ولم يفق إلا وقد ضمد الجرح، وأزالت تماضر آثار الدماء من الغرفة وأعادتها كما كانت.
الحارث يبتر أصابع باقوم.
أفاق باقوم من غشيته شيئا فشيئا، فهنأه الجمع بسلامته، وإذ علم أنه لم يبق شيء شكر للحارث فضله، ولمولاه بره، وإذ انحنى ورقة عليه يسأله عن حاله تناوله فقبله ودعا لامرأته بكل خير.
ارتاح الحارث لما رأى من همة الرجل وشكره وأحبه، وأخذ يتردد عليه كل يوم ليراقب حالة الجرح حتى التأم، ونجا باقوم من موت كان محققا، ولكنه لم يعد صالحا لاعتلاء النصب للبناء. فعول على أن يتاجر في مواد العمارة يستقدمها من مصر، ويستعمل ورقة في هذا العمل ليخلفه فيه، وكان قراره هذا مريحا لقلبه، مهونا عليه ما أصابه في قدمه.
كثر التقاء ابن نوفل بالحارث بعد ذلك إذ كان هذا الحادث سببا في تجديد مودتهما القديمة، وإحياء ذكريات ماضية، وأنس كل منهما بصاحبه، وكان ورقة ابن العفيفة يصحب ابن نوفل في كل اجتماع لهما، ويحضر مجالسهما مع الأبناء. بل كان إذا عاقه عائق عن الحضور معه افتقده الحارث وتساءل عنه وأرسل في طلبه، وابن نوفل فخور به؛ لأنه أستاذه، والحارث معجب به؛ لأنه وجده غلاما فرها حسن الطلعة، شديد الذكاء، ولأنه خبره في أمور كثيرة فوجده صائب الرأي يحسن أداء ما كان يعهد إليه من المهام. ذلك بأنه كان إذا غم عليه الأمر لم يتركه ليستفتي صاحبه، بل كان يمضي فيه برأي من عنده يكون فيه الصواب والسداد.
وإذ كان الحارث قد انتوى في نفسه الرحيل إلى اليمن أخذ يحبب إلى زوجته هذه البلاد السعيدة، ويذكر لها وللمياء ما فيها من الخيرات والبساتين والقصور والميادين، حتى حنت نفسهما مثله إلى النقلة إليها، ولا سيما لأنهما كانتا قد بلغتا مكة في الربيع، وأخذتا تتذوقان حرارة السموم التي تتقدم الصيف، ولذلك أبدت هرميون استعدادها للسفر على الفور التماسا لطيب الهواء في غياض صنعاء ورياضها، ولكن الحارث لم يكن يملك ذلك على شدة رغبته فيه؛ إذ كان معتزما أن يزف ابنته «قتيلة» إلى ابن عم لها في الطائف، وكان لا بد له من المكث في مكة شهرا لإتمام هذا الغرض.
في ذلك الشهر أخذ يفكر في مشاق السفر، ولا سيما بعد ما أصبح عليه أن يرعى في حموله زوجة وابنة، ورأى أنه لم يعد يستطيع أن يأخذ ابنه النضر ليعينه على عمله في التطبيب إذا عالج، وفي التحصيل إذا درس ويهون عليه مشقة النقل؛ لأن النضر كان قد تزوج وأعقب، ولذلك نزعت نفسه إلى ضم ورقة بن العفيفة إليه لما رأى فيه من الرجولة والذكاء، ولأنه كان فوق هذا يعرف الرومية عن باقوم فهو لهذا أصلح الناس، إذ يكون كذلك عونا لامرأته على التفاهم مع الناس، وجلب حاجتها من الأسواق، ولكنه وجد أمامه عقبتين؛ أولاهما: أن أبويه في حاجة إليه، وثانيتهما: أن ابن نوفل يستعين به في شئونه ودرسه، ويكرم أهله من أجل ذلك. فأخذه - إذا تيسر - يضر بابن نوفل وأهل ورقة معا. كما أنه كان يعلم أن ابن نوفل بلا عقب، وأنه يحب الغلام ويكرمه بعاطفة أبوة لا يكبحها فيه إلا الوقار. فإذا هو طلب الغلام إليه، فإما أن يعتذر بحاجته إليه فيخجله، وإذا سمح له به كان هذا تورطا منه في إجابته رجاء للحارث فيكون كالمغتصب، ولذلك آثر ألا يكلمه في هذا الشأن، وأخذ يفكر في سواه.
على أن ابن نوفل كان في الحقيقة يشتهي لو تيسر للفتى سبيل الحياة بما هو أحسن وأمثل، ولا يرى خيرا له وهو يعرف القراءة والكتابة بالعربية والرومية في بلد قلما وجد فيه من يعرف أن يخط حرفا أو يعرف غير لغة الحديث، إلا أن يلحق بالحارث الطبيب الذي نبغ في بلاد العربية كشجرة مورقة؛ ليتعلم عليه ويأخذ عنه، ولكنه استحيا أن يفاتحه في الأمر؛ لأنه كان يعلم أن الحارث كثير الأسفار وفي تنقل ورقة معه كبر نفقة، ولذلك آثر ألا يكلمه هو أيضا.
ولكن حدث ذات يوم أن جرى ذكر ورقة في غيبته، وكانت نفس الحارث مأزومة بحيرتها ومشتغلة برغبتها في أن يكون ورقة معه. فقال الحارث لابن نوفل: ولدك هذا يا ابن نوفل على تمام الاستعداد بفطرته، ولقد أصبح لمعرفته القراءة والكتابة بالعربية مهيأ للعلم والعلا لو وجد المعلم البار.
ناپیژندل شوی مخ