46

الأمين

ظل الغلام في بني هاشم ونوفل مرعي الجانب محبوبا ؛ لحبهم لأمه، ولأنه كان على شيء ظاهر من الذكاء، وعفة النفس. كما أنه كان حلو الحديث سريعا إلى إجابة سادته إلى ما يطلبونه إليه من المهام. بيد أن ابن نوفل كان أشدهم تعلقا به وأرعاهم له إذ لم يكن له عقب، حتى لقد شغل نفسه بتعليمه القراءة والكتابة، وكان العارفون بها في مكة قليلين،

1

ولذلك صار لابن العفيفة مقام في مكة على صغر سنه، وصار يقرأ للناس ويكتب. وأخال أن منهم سيدته أم المؤمنين، وإن كانت ممن تعلموا القراءة والكتابة.

كان عمر الغلام في ذلك الوقت عشر سنين، وكان قد حدث سيل في مكة انحدر إليها من شعابها ووديانها فصدع بناء الكعبة لقدمه، وأذاب في تياره كثيرا من بيوتها،

2

وأغرق عديدا من أهلها، وكاد يذهب بورقة وأهله لولا أنهم اعتصموا ببعض الجبال. وإذ كان لا بد لقريش أن تعيد بناء هذا البيت المقدس، بيت أبيهم إبراهيم وأمهم هاجر أم إسماعيل، الذي يطوفون به، وينسل إليه جميع القبائل العربية من أصقاع جزيرتهم المترامية الأطراف، والذي يجعل لهم من سدانته وحجابته وسقاية حجيجه ورفادة أهله شأنا أي شأن؛ فقد أجمعوا على بنائها في أحسن تقويم، وان يسقفونها حتى لا تبدو كما كانت في كل عهودها الماضية عارية معرضة للأعاصير، وإذ لم يكن يوجد من مكة بناء يحسن البناء بالحجر، ولا في أسواقها ما يحتاج إليه من أدوات العمارة، اللهم إلا أحجارها المقدسة فكروا في إرسال وفد منهم إلى مصر؛ لشراء حاجتهم من الخشب، وليستقدموا معهم بناء خبيرا بعمارة بيوت الله، ولكن حاجتهم إلى البناء الماهر وأدوات البناء الصالحة لم تطل فقد حدث أن دفعت الريح إلى شاطئ جدة

2

سفينة كبيرة كانت محملة بالأخشاب والرخام والحديد وسائرة في طريقها إلى الحبشة لبناء كنيسة هناك. اصطدمت السفينة بصخور المرفأ صدمة شديدة أتلفتها حتى لم تعد تصلح للمسير، وكان لا بد من تفريغ شحنتها، وإلا تناولها البحر. يومئذ تكاتف أهل جدة على إنقاذ شحنتها وحملها في قوارب صغيرة سالمة إلى البر، حتى يعدوا سفينة أخرى أو سفنا صالحة لتحملها إلى بلاد النجاشي.

ولكن القوم تسامعوا في مكة بخبرها، فجاء وفد أعيانها ليأخذوا حاجة البيت من أخشابها، ويدفعوا ثمنه سواء رضي صاحبها بالبيع أو لم يرض. غير أنهم لم يضطروا إلى ذلك فقد أجاب صاحب السفينة طلبهم على الفور، وإذ عرف مقصدهم عاد معهم إلى مكة؛ ليرى ما هم بصدد بنائه.

ناپیژندل شوی مخ