قال: معذرة إليك. اسمي رؤبة. لقد ألهاني ذعري من فعله عن إجابتك: هذا ماء محول، وأنت ما اسمك؟ فقال: اسمي ورقة. قال رؤبة: إني أحب هذا الاسم لأن أبي كان يقول: إن ورقة هذا نبي ظهر في الحجاز كان يقول للناس إن عبادة الأصنام حمق وجهالة، وأنا على رأيه منذ رأيت هذا الرجل وإلهه الكاذب، ورأيت الناس يتركون أموالهم قربانا لصخور وهم يتوهمون أنهم يتقربون إلى الله. إن الله في السماء. ألست على رأيي يا ورقة؟ قال: بلى . بلى، ولكنك لم تخبرني عن هذا الماء المحول. عجبي لك إنك تنصحني أن أعجل بالرحيل عن هذا المكان، ثم تطيل حديثك فيما لا أريد. كفاني ما قلت عن الماء. دعني أركب. ثم هم يمتطي، فقال رؤبة: امتط امتط. سأسير معك وأنا أحدثك.
فامتطى ورقة ناقته ولكنه لم ينهضها؛ لأنه لم يكن يخشى شيئا بعد أن قتل الرجل، وظل على ظهر الناقة والغلام مستمر في حديثه قال: إن لديه فوق الجبل عينا يسيل منها ماء قليل، وإذ أن له بيتا من الناحية الأخرى من الرابية فمسيلها نحوه، ولكنه قد احتفر بجوارها حفرة عميقة وراء الصخرتين اللتين رأيت ليملأها من ماء العين. ثم خد بين الصخرتين أخدودا ليسيل منه الماء إذا أراد أن يحدره على هذا الجانب، وذلك بأن يسد مجراها من ناحية بيته، وهو يسد هذا الشق كل ليلة بركام من التراب والحصا، فإذا طلع الصبح نهض وأطل من بين الصخرتين، أو أطللت له ليرقب الطريق. فإذا لاح له راكب منفرد مثلك في أي وقت من أوقات النهار، أزاح حشو الشق وأذن للماء أن يسيل على جدار الجبل رقراقا، إذا واجهته أشعة الشمس تألق وشامه الراحل من بعيد فإما ورد إليه أو إلى ما دونه من الشجر، وكم للإنسان من حاجة بين الماء والشجر، وهنا يقع. ولكنه عمد منذ ليلتين إلى ربط أعجاز من النخل بجذوع الخميلة؛ ليعرقل السائرين ويوقفهم أو يتلف مطاياهم، وكدت تتعرقل لولا أن لويت عنانك. أنت ذاهب إلى نجران. قال ورقة: نعم. قال رؤبة: إن هنا طريقا يقرب مسافة ما بيننا وبين نجران نصف مرحلة آه. ليتني أستطيع أن أدلك عليها! قال: وما يمنعك؟ قال: خوفي منه إنه الآن يراقبني، وسأقول له: إنني كنت أستمهلك حتى يعود إليك، ولكني أعرف أنه لا يجرؤ أن يلقى أحدا وهو بعيد عن الجبل؛ لأنه يقول: إن الطريق للناس كلهم، أما الرابية فله وحده. فضحك ورقة، وقال: ألا تشعر أنك عوقتني كثيرا؟ قال: بل وربي، يا لشديد جرمي، ولكني لا أطيق فراقك. أما وهو لم يأت فسر على بركة الله ألم أقل لك سر وأنا أتابعك! قال ورقة: لم يعد يملك سيدك أن يلقاني ولو صعدت إليه. عد الآن إلى بيته فخذ لنفسك ما فيه. إني قتلته، وهو الآن مسجى في دمائه عند مسقط الماء.
صات الغلام لدن سماعه هذا الكلام صوت مفجوء، ثم قال: قتلته يا سيدي! حقا. قال ورقة: نعم. فعاد رؤبة يسأله: أصبح جامدا كهذه الأرض؟ ودب عليها بقدمه. قال ورقة: نعم، ميتا. قال رؤبة: كما مات أبي! قال ورقة: وكما كنت سأموت. فاستمر الغلام في دهشته وفرحه وهو لا يكاد يصدق، وتقدم بيديه ضارعا إلى ورقة يقول: بحق اللات والعزى إلا ما أخذتني معك إنني من خولان
7
ولئن رددتني إليها لأنحرن ليعوق كل عام هديا ليبقيك ويقيك ويحميك. فقال ورقة: لقد عدت إلى ضلالك القديم يا صاحبي. ألم تقل لي إنك تنكر الأصنام. فكيف تقسم باللات والعزى ثم تترضاني بنحرك ليعوق ما تنوي نحره! لا يا رؤبة لا. ما هكذا يكون الوفاء لابن نوفل. فلطم رؤبة وجهه خجلا من نفسه، وقال: لا أدري وحقك ماذا أصابني، ولكني أجد لنفسي في بعض أحوال اضطرابي ما أكرهه منها وانا هادئ، ولقد ذكرت أمي وما هي فيه من الشقاء؛ لفقدها الزوج والولد معا ولم يكن لها سوانا. فاعذرني يا أخي.
فقال ورقة: وكيف تيسر لك اليوم أن تترك الأكمة ولم تهرب. قال: إنه يرسلني في الصباح لأرد عليه النوق الجامحة من أثر عراكه مع فرائسه ويأخذ يراقبني، فإذا جمحت أنا أو شردت، أو خرجت فيما وراء هذه الشجرة بغير ما سبب، فالسهم في أثري يعلنني برأيه في. إنه لا يحادثني إلا بلغة القوس والوتر، ولقد أصابني اليوم سهمه إلا أنه ما كان يعنيني، ولكني قدرت أنه راميك بغيره وغيره حتى يصيبك فيرديك. أما هو فهيهات أن يصاب. إنه معتصم وراء العقاب، وما عجبت لشيء قدر عجبي لأنك قتلته. أقتلته حقا يا سيدي ومات! وأصبح لا يستطيع أن يدركني! قال ورقة وهو يضحك: نعم. نعم، وربي قتلته بحيلة جازت عليه، وسأخبرك ماذا فعلت حتى أنزلته من معتصمه فرميته وقتلته. تعال اركب رديفا. قال رؤبة وهو يركب: حييت يا بطل حييت، وإذ أصبح الطريق مأمونا فمل بنا من وراء الخميلة؛ لنسير في الدرب القصير.
فلوى ورقة عنان الشملالة نحو الشمال؛ ليعطف وراء الخميلة، ويسير في رفقة الغلام.
الفصل السادس
الشمطاء
انعطف الطريق نحو اليسار وراء تلك الخميلة فلاح دربان: أحدهما يلتوي إلى اليمين ذاهبا في الجبال، والآخر إلى اليسار صاعدا إلى أكمة القرضاب. فأشار رؤبة بيده وقال حين أوشكا أن يبلغا مفترق الدربين: من هنا كان القرضاب يصعد بغنيمته إلى بيته، ولولا أني أكره أن تقع عيني مرة أخرى على مكان شقائي بعدما نجوت لسألتك أن تصعد لأريك ما في داره، وأحمله لك فهو اليوم من حقك. قال ورقة: وماذا عسى أن يكون فيه مما يهمني؟ قال: ثلاث قسي نادرة من العتل الفارسية وسبعة سيوف عجيبة هندية ومشرفية بله بعيره وأزواده وماعون الدار. قال ورقة وقد استحدث فيه كلام رؤبة عن القسي والسيوف رغبة في حيازتها: إنك يا غلام لتغريني بأحب الأشياء إلي، ولكن أليس في الدار ديار؟ قال: بلى. عجوز شمطاء ليس إلا، وسيسرها أن تعلم بمقتل الرجل ونجاتها منه هي أيضا. يا لله ما أشد مقتها له! لقد كان يدعوها خالته، ولكنها في الحقيقة خالة امرأة كانت له قتلها في بعض غضباته على مرأى مني ومن خالتها، ويالهول ذلك المشهد! أخذ يضربها بالسيف دراكا حتى تقطعت أشلاء، وأنا والعجوز نصرخ من الفزع، ولولا أننا جرينا واختبأنا في الدار للقينا حتفنا بنفس السيف الذي لقيت به المسكينة حتفها، ولكن الخالة فقدت وعيها من شدة جزعها، فقد رقدت ثلاثة أيام لا تتكلم ولا تعي كنت فيها أقوم على طعامه، وأعني بالخالة المسكينة حتى أفاقت وردت العافية إليها. إلا أنها انقطعت عن الكلام معه ومعي بعدئذ حتى حسبتها خرست، ولكنها كانت تتمتم في وحدتها بكلمات المقت للرجل، وكم مرة دخلت عليها فوجدتها تتضرع إلى «يعوق» وتستنزل على الرجل غضبه ولعنته. آه. لو أنني أذهب إليها وأخبرها وأعود من فوري أن «يعوق» قد استجاب لها! لقد كانت تحسن إلي وترعاني. ثم أليس من حقها علي أن أودعها وأخبرها بما جرى لتتدبر أمرها؟ ستظن إذ لم يعد إليها ولم أعد أنا أيضا أننا خرجنا وراء طريدة فتنتظر وتنتظر على غير جدوى وحيدة بين مراتع الوحوش.
ناپیژندل شوی مخ