وأرسل ورقة وأورست برسالة وبيانات فذهبا إليه - كما قد رأينا - وعادا بوعود لم يتحقق منها شيء، أو بالأحرى لم ينفذ منها إلا ما أباح الإمبراطور لنيقتاس عمله إذا أخذ اليأس يتولاه.
ذهبت تلك الأخيلة مع الريح، ولكنها زادت في غيظ السلار وضيقه ساعة كان جماعة كبيرة من قساوسة أديار اليعقوبية على رأسهم تيوناس وكيل البطريق يسيرون إليه في جبابهم الكهنوتية الفضفاضة يرفع بعضهم صلبانا من الفضة وأخرى من الذهب، ويحمل بعضهم نسخا غالية من الكتاب المقدس مما بذل الرهبان وقتا طويلا في تزيينه بماء الذهب المشرق الجميل، وبالرسوم الملونة التي تشرح الصدر. جاءوا إليه ليدعوا الرب عنده أن يفتح عليه ويعطيه النصر الذي طال انتظاره، وهم يقدمون لهذه الصلاة في الطريق إلى السلار بإنشاد الأناشيد وترتيل التراتيل ليثبتوا له ولاءهم باستعجال الثالوث المقدس؛ لتحقيق ما يجب عليه تحقيقه من أجل عيونهم لاكتساح دين الكفر الرومي الذي يقول بأن جسد المسيح عليه السلام لا يفنى! ويرون أن هذا القول كبير جدا وكفر جدا، ويجب لتطهير البلاد منه، أن يعطوا الفرس - الذين لا يعترفون بشيء من دينهم حتى ولا بأن المسيح وجد - بلادهم كلها وأعناقهم حتى التراقي أملا أن يتمكنوا في ظلال نارهم من نشر الدين الحق الذي لا يمكن إلا أن يكون دينهم، ويرى غيرهم أنهم إنما يقدمون المثل من حيث لا يشعرون على أن الدنيا ما شقيت بشيء شقوتها بأمثال حضراتهم؛ إذ يبيعون أوطان الشعوب، ويسلمون للفاتحين رقاب الناس وأعراضهم من أجل أن يحتفظوا هم بأوطانهم الخاصة - الأديار والمعابد والضياع والمزارع - وتتحمل الشعوب بعد ذلك وزر عملهم وسوء آرائهم، وفضيحة التاريخ لهم ظلما وتعجلا من الكاتبين في الحكم. فالواقع أن كهنوت كل أمة كان هو المسيطر على شعبها المتصرف في شئونها يسوقهم في كل سبيل، ويقضي في حاضرها ومستقبلها بما لا يتفق إلا مع مصلحة القساوسة الخاصة، ولا تملك الشعوب أن تعصي لهم أمرا، أو تعرف وجها لدفع آذاهم عنها؛ لأن طاعتهم فيما وقر في قلوب الشعب، من طاعة الرب الذي أسلمهم أسواط الحرمان والطرد، وأعطاهم باسم كل ما اختلقوا من القوانين والشرائع حق الحيلولة بين الرجل وامرأته والوالد وأولاده. على أن الشعب المصري لم يشترك مع هؤلاء القساوسة في شيء اللهم إلا خدم الأديار ومن كانوا يحيطون بهم من جيرة الحي. أما الفلاحون والصناع فلن يكونوا يرون معنى لهذه الوفود، ولا هذه الصلوات والتراتيل، وإذا كانوا قد تراءوا باغتباطهم فهو تراء لدفع الأذى الناتج عن أنفسهم أو هو مشايعة منهم لقساوستهم الذين يدعون لأنفسهم في كل زمان الرشد والإخلاص، وحق الولاية على الناس، ويتبجحون بأنهم أعرف بالواجب.
على أن هذا الوفد المقدس لم يجئ هذه المرة باختيار أعضائه كلهم بل نزولا على إرادة زائر كريم، وأسقف من أكبر أساقفة اليعقوبية هو أسقف نجران الهرم المريض. علم من الركبان بدخول الفرس مصر فوجد الهمة والصحة والشباب؛ لتحمل مشقة السفر في البيداء والجبال على ظهور الجمال، ثم في السفن؛ ليأتي من أقصى الأرض ليلقى أمير الفرس، ويقيم عنده أحر صلاة. كان وصوله إلى دير الهانطون على إثر خروج الحارث منه بقليل، وكان لمقدمه هو وقساوسته ضجة فرح عظيمة في الدير بلغ صداها مسامع الرهبان في الأديار المجاورة فجاءوا يسلمون على زميلهم القديم، وممثلهم الأعظم في بلاد العرب، ويصلون معه صلاة شكر حارة للرب على وصوله سالما، واجتماعهم به في يوم سعيد جدا هو يوم الأمل القريب بزوال مذهب الكفر الرومي الذي استولى على أكثر ما كان يجب أن يكون لهم وحدهم من الأرزاق والطيبات؛ ولذلك دعاهم الأسقف المحترم إلى تنظيم موكب كبير يسير إلى السلار في معسكره، ويقيم الصلاة أمامه، ويدعو بأدعيته الطيبة؛ لتعجيل يوم انتصاره على الروم، ويمهدوا لذلك بإنشاد أعذب التراتيل على مسمع من البحر والسماء.
صوت الغناء في أذن المحنق المغيظ يزيد في ألمه وغيظه، ولمع الذهب والفضة وإشراق الملابس الزاهية بألوانها يؤلم المحزون إيلاما شديدا؛ ولذلك كانت أصوات ذلك الوفد التقي، وألوان أرديته الرسمية، وبريق المعدنين الكريمين - مؤلمة لنفس السلار الأعظم، حتى لم يجد بدا حين عرف من القادمون، وعرف غايتهم أن يعاجلهم برسول يقول لهم: اسكتوا! إن السلار لا يطيق سماع هذه الأصوات. فسكتوا وقطعوا بقية الطريق إليه كقطيع من التيوس المنعمة في زرائب الأغنياء.
وكان السلار قد اشتد به وجده إذ يجيء هؤلاء السادة؛ ليشكروا الرب على مجيئه، ويدعوه أن يفتح عليه بفتح الإسكندرية وقت أن كان قد استقر رأيه على تركها كما تركها بونوسوس، ولكنه كتم ما في نفسه، حتى إذا بلغ وفد الرهبان حظيرته وحيوه بأكرم الدعوات وأغلاها لم يرد عليهم؛ بل وقف صامتا وهم صامتون، ولم يسمح لأحد منهم بالجلوس، وظل ينظر إليهم مفكرا شارد الفكر يريد أن يجبههم بالحقيقة التي في نفسه ولكنه امتنع، وخيل إليه أنه كان يقول لهم: أيها القوم الذين بليت بأمثالهم كل الشعوب في كل أرض، إني ما جئت أنصر دينا على دين، وإنه لا يهم الفارسي الذي يدين بدين ميترا - وإن كنت لا أومن بميترا ولا بغيره - أن يعلو في مصر غير دين ميترا، ولن يكون منا يوم يتم لنا النصر إلا التسامح مع أرباب كل دين. فأما أن يكون لكم ميزة خاصة فلا؛ إننا جئنا هنا لنتملك البلاد، وندخلها في سلطة ملك الملوك كسرى أبرويز، لا ليكون لنا بأدياركم وكنائسكم علاقة ما دمتم لا تحدثون ما يعرقل أعمال الملك. كل ما نطلبه إليكم أن تقبعوا فيها كما قبعتم حتى الآن. لا يكون لكم بأهل هذا البلد ومصالحه الدنيوية شأن بتاتا. ما شأنكم أنتم بالملك وتدبيره! والحكومة وتصرفاتها! وأنتم بعيدون عن الدنيا بأدياركم، ثم طال سكوت السلار وسكوت الوفد في انتظار كلامه، وقد أخذ الذعر يعتريهم حتى نطق فقال: شكرا لكم أيها الوفد الذي جاء لولائه لكسرى يصلي لربه ويدعو بنصر سيوفه على الروم. هذا يدل على كرهكم الروم، وبحق ما تكرهون؛ لأنهم ظلمة يتدخلون في أديان الناس، ويريدون حملهم على دينهم فإن لم يستطيعوا اضطهدوهم كما اضطهدوكم، وحرموا عليهم العيش مثلهم، وليس هذا من العدل، ولا من واجب الحكومة والسداد. فصاح الوفد مهللين لهذا الكلام الجميل، واستمر شاهين يقول: أما ملك الملوك كسرى العظيم العادل فإنه لا يميز دينا على دين، بل الناس عنده سواء؛ لأنه لم يأت لذلك بل ليجلي الروم عن هذه البلاد، ويحكمها بما فيه الخير للناس جميعا، وستزول بطرقتهم بزوالهم، ولو بقيت ما مسها بسوء، ولكنها ستزول فافرحوا إذن. والآن، اذهبوا إلى أدياركم، وصلوا ما شئتم هناك، ورتلوا ما شئتم فأنتم في أمن، ولكن حذار أن يهزأ رهبانكم، ومن لجأوا من الشعب إلى الأديار مرة أخرى بجنودي، ويلقوا عليهم الأحجار والأوضار، وإلا رددت إلى الدنيا الأرض التي تقوم عليها أدياركم؛ ليزرعها الناس، ويأتوا للدنيا بالخيرات.
فانبرى بعض القساوسة يعتذرون مما فعل السفهاء، ويلتمسون منه الصفح، ولكن كلام السلار لم يعجب أسقف نجران بل خيب أمله الذي من أجله جاء من أقصى الأرض، فقال للسلار: ولكن مولانا كسرى أبرويز قد عقد مجمعا
6
معجلا منذ أيام في القدس؛ ليعرف أي مذاهب المسيحية هو الحق فوجد أن دين اليعقوبية هو الصحيح، ولذلك أعلن الناس بضرورة اعتناقه؛ ليكون دين الدولة لا دين سواه، وكلام السلار الأعظم ينافي رأي ملك الملوك.
فأدرك السلار ما في طي هذا الرد من الامتعاض والجراءة، ولكنه كظم غيظه، وقال: لقد أخطأ من بلغك أنه أمر في ذلك بشيء. قد يكون اتضح له أن دين اليعقوبية أقرب إلى العقل من سواه، ولكنه لم يأمر أن يكون دين الدولة، فإنه لا يريد أن يشغل نفسه بما لا يهمه، ولذلك أذن لمودسنوس وهو من بطارقة الروم أن يعود إلى القدس، ويعيد بناء الكنائس الرومية التي هدمتها الحرب وأعمال اليهود المزرية، ومد حمايته لكل دين
7
ناپیژندل شوی مخ