139

2

البيت، وهي تحادثه في غير ما في نفسها إلا أنها قالت: أرى هذه الملابس أليق بك من ذلك الثوب الأسود الذي كنت تلبسه في الصحراء. قال ورقة مبتسما: كنت ألبسه حدادا على نفسي كما يفعل أهل هذه البلاد. أما الآن ... فأغضت لمياء طرفها مبتسمة في خفر ود لو يلتهمه بالتهامها، وكان في تلك الأثناء ينظر إليها بعين السعادة التي في الدنيا كلها لولا لمحة كانت وراء تلك السعادة لم تخف عنها، ولكنها كانت قد لقيت أهلها عند السلم فتركته لهم. هناك فتح الشيخ ذراعيه فتلقاه بينهما وقبله، وهو يقول له بصوت الأب الشاكر لله فضله عليه: مرحبا بزوج لمياء! وكانت كلمة منتزعة من قلب مفعم بالحنو والرضا والإعزاز، فانحنى ورقة مغرورق العين يقبل يده حين كانت هيلانة وهرميون واقفتين والدموع في عيونهما فرحا به وسعادة بأنه أصبح لهم جميعا. ثم سلمتا عليه فانحنى على يد هرميون يقبلها فقبلته في عارضه قبلة الأم. أما هيلانة فجالت في المجلس مرحبة ومتكلمة بما جعل الموقف هينا، وأما لمياء فاختفت إذ ذاك؛ لتخفي بعض عبرات لم تقو على كبحها، وظلت بعيدة عنهم حتى حين.

الفصل الثالث والأربعون

القديس الأناني

ذهب أهل بيت قوزمان بلمياء إلى القصر؛ ليلقوا الأمير طوعا لمشيئته، واستعدادا للنزول على إرادته، وكانت هيلانة أشد الذاهبين فرحا بما هم في صدده. أما هرميون فكانت على ما ترى من أن ورقة أليق الشباب بابنتها وأحبهم إليها، تشعر بأن سعادتها ينقصها شيء؛ لتوصف بالسعادة التامة من غير مبالغة. كانت تذكر الحارث زوجها الطيب المفعم القلب بالمحبة لها، والذي دل على صفاء معين نفسه بما ذكر في صومعة الأسقف من عواطف بر كان ينضج بها قلبه، وما بدا منه من تمام الرعاية لها، والعناية بها حيث تنقل، وبما رضي أن ينزل عن أملاكه كلها في الإسكندرية ومريوط إكراما لها ومغالاة بها، فتأسف في نفسها؛ لأنها ذاهبة باختيارها إلى قصر الأمير لتشهد بعينها، وتقر بلسانها زواجا تعلم حق العلم أن الحارث لا يرتاح إليه تمام الارتياح، وإن كان في ذاته صوابا كل الصواب، ومغنما لها ولابنتها كل مغنم؛ لأن الحارث كان على فرط حبه لورقة وثقته به، وقوله لها إنه المثل الأكمل في الرجولة والفضيلة - يتحسر على أنه لا يملك أن يزوجه ابنته؛ لأنه ليس ثقفيا ولا قرشيا، ولا من بيت من بيوت السيادة في العرب. نعم، إن هذا السبب غير وجيه إذا ووجه بالحق من أمر ورقة الذي لم يبالغ أبوها فيما وصفه به لنيقتاس من أنه قديس وفيما تعلم هي وهيلانة ونيقتاس، بله لمياء وكل من اتصل به من أنه الفتى النقي الذي لا يستطيع القلب مهما كان غفلا أو كان مريضا إلا أن يتلقاه بالترحاب والحنو والإعجاب والإجلال، ولكن المسألة عرف، والحارث يعيش من عربيته في جو له كغيره من عرف الشعوب الأخرى خصائص وأعاجيب؛ كأن يزوجوا لمياء الزهرة الهيلنية الموطنة بجلف من أجلاف بني عبد الدار، ويأبوها على ورقة الكامل المهذب؛ لكيلا يقال زوج الحارث بن كلدة الثقفي ابنته من ابن النجار الذي كان يعيش على فضل أبناء عبد الدار وأمثالهم من بيوتات مكة. على أن هرميون لا ترى من حقها أن تقول له: لكل قاعدة استثناء، وورقة ممن يجب أن يوضع لهم عرف خاص. فهي إذا جاءت اليوم إلى قصر الأمير؛ لتزويج ابنتها فلن تكون فرحتها على شدتها كاملة خالصة. إن لزوجها عليها حقوقا حتى ولو كانت بعيدة عنه كل هذا البعد، مقطوعة عنه هذا الانقطاع. بل لو كانت مطلقة منه ما نقصته هذه الحقوق.

بلغوا القصر في المساء، ونزلوا بيت هيلانة، وسألوا عن ورقة فقيل مع الأمير، وإن الأمير مع يوحنا الرحوم بطريق الروم الجليل، وإن هناك اجتماعا حربيا عظيما؛ للتذاكر فيما هم فيه من شئون الدفاع عن الإسكندرية مع الاستمرار على معونة هرقل، وإمداده بالغلال؛ لإطعام الجيوش المدافعة عن القسطنطينية . فقد كان جل اعتماد هرقل ورجال الإمبراطورية على ما يرد إليهم من مصر

1

ولذلك انتظر قوزمان حتى ينفض المجلس.

انتهى المجلس إلى أنه لا خوف على الإسكندرية من ناحية الفرس، فهي تقوى على الحصار ما شاء الله، وإنما الخوف من ناحية أهلها أنفسهم والروم معهم إذا نفدت المئونة أو شعروا بقلتها؛ لأن ما فيها من الغلال إنما يكفي أهلها بضعة أشهر بشرط أن ينقطعوا عما كان عليهم إرساله كل شهر إلى القسطنطينية فإذا أراد الإمبراطور أن يستمروا في الدفاع عنها بعد ذلك فيجب أن يبحث في لمبارديا

2

ناپیژندل شوی مخ