136

كان بطرس البحريني خبيرا بطبائع الناس، ولم يكن الحبر اليهودي أقل منه في هذا ولا إسحاق بن مرداس، ولذلك قدر كل منهم - وقد فشلوا في مؤامرتهم - أن لا بد أن يحاول بعض الفاشلين فضح أمرهم والوشاية بهم؛ ليتقربوا إلى من في يديهم الأمر حتى اليوم، ولا بأس عليهم أن يتقربوا في الغد إلى أعدائهم، ولذلك استقر رأى بطرس البحريني من ناحيته، واليهوديان من ناحية أخرى ألا يبقيا في المدينة بعد ساعتهم تلك ساعة واحدة، ولذلك قصد هذا إلى بيت خليلته فجمع حاجاته وأعلن جميع الجيران أنه يغادر المدينة إلى حيث تلقي به السفينة الذاهبة إلى نيقيوس ثم لا يعود، وخرج مودعا بكل مظاهر الأسف الجاف من جيرانه ومعارفه، وهو يجمل حقيبته على كتفه بشكل يلفت النظر، وكان كلما سأله سائل ما بك يا بطرس؟ أين ترحل؟ يقول: إلى منوف: إلى الدير الذي خرجت منه فلقيت الهوان في بعدي عنه. لقد غضب علي الرجل الذي أحسنت إليه، وصدق في وشاية كاذبة فلم أعد أطيق البقاء في الدنيا التي يجزى المحسن فيها شر جزاء، ولكن هذا عقاب الرب لي على خدمة رومي كافر. على أنه لم يركب السفينة إلى منوف بل خرج من باب القمر؛ ليعود من باب الشمس، وقد غير زيه وحلق لحيته وشاربه وقفل إلى كنيسة الأنجليون حيث يلقى شريكا له في المؤامرة الفاشلة ويستضيفه. أما اليهوديان: فذهبا من فورهما إلى حي اليهود، واستودعا المال حبر الحي، وكان الرجل عليما بما جاءا في صدده ومشتركا معهما في التدبير واستأذنا، ثم سافرا فعلا قاصدين إلى السلار؛ ليبلغاه ما وقع، ويخبراه بما فعلا بالمال، ولذلك لم تؤد مباحث الضابط إلى شيء مما أراد، فقد أخبره أهل الحي الذي فيه خليلة بطرس أنهم رأوه راحلا، وأنهم علموا أنه ذاهب إلى منوف، وعلم الضابط من حراس باب الشمس أن اليهوديين خرجا قبل السؤال بزمن ليس بقليل على الراحل على بغلين إلى حيث لا تصل إليهما يد أحد الآن حتى ولا نيقتاس نفسه؛ إذ كان الفرس قد انتشروا فيما وراء الأرباض الشرقية، ويوشكون أن يحاصروا الإسكندرية، ولم يجرؤ الضابط أن يرفع نتيجة جهده إلى القصر فأرسل إلى ورقة خطابا مع أحد جنوده يذكر فيه خيبته، ويرجو منه أن يتلطف فينهي ذلك إلى الأمير ويفيده.

كان الليل قد أرخى سدوله على الإسكندرية، وأخذت هواجس الأمير تعبث بفؤاده، فتمثل المتآمرين مجتمعين، وتمثلهم قائمين بثورة، وأنهم يقتلون الحراس ويفتحون الأبواب، وأن الجيوش الفارسية تدفقوا في المدينة، وهرعوا إلى القصر؛ ليقبضوا عليه ويقتلوه. فاضطرب، وأخذ يسير في غرفه مسرعا كالنمر المحبوس لا يدري ماذا يفعل؟ ولكنه علق على القبض على البحريني واليهوديين آماله حين أن القبض على المتآمرين كلهم لو تم ما أمنه إلا من شرهم وحدهم، وخطر له أن يستأنس في ضيقه بورقة حارسه المحبوب، وأنيسه الذي أصبح يراه كالهواء لصدره فناداه، وكان ورقة إذ ذاك آتيا إليه؛ ليخبره بفرار بطرس وإسحاق. فلما رآه قال: ألم يرد خبر من أوربيداس ؟ قال: بلى يا مولاي، الآن، ولو لم تدعني لكنت أنهيته قبل أن تسألني. إنهم فروا من المدينة وهذا أكبر دليل على حبوط المؤامرة. قال: ولكني كنت أشتهي أن أصل بهم إلى بقيتهم، وكان إخلاص ورقة لنيقتاس وحب نيقتاس له قد رفع حد الكلفة بينهما. بل كان نيقتاس نفسه هو العامل على رفعها؛ لكي لا يحرم الأنيس والنصيح، وليجد في جواره محدثا يستبين الصواب من محادثته، فقال له: لتنتقم منهم يا سيدي، أم لتكفى نفسك شرهم؟ قال: لهذا وذاك يا ورقة. قال: أما أن شرهم قد زال فهذا ما لا شك فيه. إنهم لا يعملون إلا بالمال، وقد ذهب اليهوديان بالمال، وأما أن تنتقم منهم فليس هذا وقته. إن لهم أهلا وأقارب وزعماء وأحزابا، وأنت اليوم في حاجة إلى هدوء الناس؛ لئلا يتخذ بعضهم هذا الحادث عذرا من الخيانة بدعوى الانتقام لأهلهم، أو دافعا إلى الثورة وقت الحصار، وإنا لنحمد الله الذي أفسد مؤامرتهم قبل أن تفرخ بيضتها. قال نيقتاس بعد شيء من التفكير: صدقت يا ورقة. هذا كله بفضلك. قال: بل بفضل الله الذي يحبك يا مولاي. لقد عثرت بهم غرضا! إذ كنت أسير إلى بيت الأستاذ قوزمان. فقال: أبي هيلانة. قال: نعم أبي هرميون امرأة أستاذي الحارث بن كلدة. قال نيقتاس ضاحكا: أليس الرجل أبا السيدتين يا ورقة؟ قال ورقة متعمدا تسرية الهم عن مولاه لما رآه كثير التفكير في غير طائل: بلى يا مولاي، ولكني عرفته على أنه أبو امرأة أستاذي وجد ابنته لمياء، وسيبقى كذلك في ذاكرتي وعلى لساني، ولو غضبت سيدتي هيلانة. فضحك الأمير ضحكة سرت عن نفسه كل هم، وقال: لا أدري والله على أي الأمرين أشكرك؛ على إحباطك المؤامرة؟ أم على تسرية الهم عني؟ وكانت القهرمانة قد عادت بسيدتها هيلانة إلى القصر، وعاد معهما قوزمان؛ ليهنئ الأمير على سلامته. فلما رآهم نيقتاس هلل لمرآهم ورحب بهم، وإذ كان يعرف علاقتهم جميعا بورقة مما سبق لهيلانة أخباره به من تاريخ ورقة بمكة انبرى فيما هو فيه من الانشراح يفضح ورقة لدى هيلانة بما قال. فقالت مازحة: أهذا جزائي لديك يا ورقة؟ قال: ما زعمت الأمير فاضحي لديك بهذه السرعة، قالت هيلانة للأمير: أنا أعرف سبب نسيانه إياي يا سمو الأمير، ولكني لكي أنتقم منه لا أبدي لك السبب أمامه ولا أمتعه بذكره قال: بل اذكريه بحقي لديك، لعل فيه فضيحة أخرى. قالت: إنه يحب لمياء بنت هرميون حب عبادة وهيام فهو لا يعرف من أبناء قوزمان سوى أم لمياء، ولو تركت له العنان ليعرف لك أبي لأنكر هرميون وقال: جد لمياء. فضحك الأمير، وقال: لقد قالها وربي وأوجست ما ذكرت. ما أشد وفاءك للمياء يا صاحبي! ولكن ترى هل تحبه لمياء كما يحبها؟ قال قوزمان: لقد أبت أن تتزوج ابن أختي رعيا لذكراه فيما أعتقد؛ على أنها كانت إذ ذاك يائسة منه. قال: وهو! لماذا لم يخطبها إليكم وقد اجتمعتم؟ قالت هيلانة: إنه يزعم أن أمها تأباها عليه، وأقسم لك يا سمو الأمير أنها لا تتردد في قبوله بعلا لابنتها. هكذا علمت منها اليوم، لولا أنه يزعم أن أستاذه يكره أن يزوج ابنته من غير قرشي من أعيان مكة. على أن هرميون كانت قد اشترطت على زوجها أن يكون أمر زواج ابنتها بيدها، وأقسمت إلا أن تزوجها في الإسكندرية وفي بيت الأمير نيقتاس نفسه.

قال نيقتاس: ويجب أن يستمر شرطها، وها نحن أولاء في الإسكندرية وورقة في بيتي بل هو ابني، فأصبح من حقه بمقتضى هذا الشرط أن يأخذها رضيت أم لم ترض. أليس كذلك يا ورقة؟

كان ورقة يستمع إلى هذا الحديث وهو مضطرب؛ لأن هيلانة قد طارت به من الأرض إلى جو لم يكن قد استعد له بجناح، فرفرف ورفرف وأسف، ثم ركع على ركبتيه، وتناول يد الأمير وقبلها وهو يقول له: مولاي الحبيب المبجل، أعفني بحق الله عليك.

فتعجب الأمير لكلام ورقة، والتفت إلى هيلانة يسألها عن سر هذا الرفض؟ فقالت: ما سمعت حديث حب أصفى من حديث ورقة ولمياء، ولكنه وفي لأستاذه جد الوفاء، ويكره أن يقول عنه إذا هو تزوج ابنته بغير رضا إنه اغتصبها، وقد عرفت قدر ما عليه ورقة من النبل. قال نيقتاس: وأين منه أستاذه الآن؟ إنه في صحراء العرب، وإذا جاز لعربي لم يهمنا نسبه أن يتزوج رومية خالصة لعلمه وفضله - فأحر أن يتزوج عربي مثله فتاة نصفها رومي، ونصف عربي، وهذا العربي فيما يعرف الناس وأعرف لا يقل عنه فضلا ونبلا. أليس كذلك يا قوزمان؟ فأجاب قوزمان حين كان ورقة واقفا في حيرة لا يدري بما يقابل كلمات بر سيده: لقد سمعت يا مولاي عن ورقة من ابنتي هرميون ولمياء، ثم من هيلانة اليوم ما لم يكن يخطر لي على بال. إنه وحقك لقديس، ولو كانت لي بنت ثالثة لعددت زواجها منه نعمة من الله علي. قال نيقتاس: ولمياء؛ أليست ابنتك؟ قال: بلى، وإني لأملك بفضلك أن أزوجها منه؛ لأننا كلنا رضوان، وها أنت ذا ترى رأينا، ولكن ما حيلتنا فيه؟ فقد أقر لابنتي هيلانة وهو في الصحراء أنه يحب لمياء، بل هي التي استكشفت ذلك، ولكنه يأبى أن يلقى أستاذه وفي نفسه ما قد يكون علامة أسى. قال نيقتاس: غدا يعقد عقده على لمياء هنا! احضروا بها إلي غدا هي وأمها. إن لهؤلاء القديسين أعمالا وآراء لا نفهمها نحن أهل الدنيا الفانية، وضحك ضحكا متواصلا. ثم قال: سأراها، فإن رأيت أنها من الجمال والكمال بحيث تصلح لك أقطعتك في الإسكندرية مرتزقا، ورقيتك وزوجتك إياها على يد أخيك في القداسة يوحنا الرحوم نفسه وإلا ... ثم التفت بابتسامة صوب ورقة، ولكن ورقة لم يكن موجودا حين كان يتكلم. فقد انسل من المجتمع ساعة ذكر قوزمان ما ذكر عنه. فقال الأمير: أين ورقة؟ وإذ لم يجده أدرك سر هروبه فضحك، ثم نهض يبحث عنه فوجده عند غرفه فعاد إليهم ضاحكا حين كانت هيلانة تقول: إنه يحول كالظل لا يشعر به أحد. ما أشد حياءه يا سمو الأمير! قال: رأيته واقفا على غلوة من هنا، وضحك. قالت هيلانة : امض فيما اعتزمت فلن ينهي هذه المسألة أحد سواك، وليبارك لنا الله في مروءتك. إنا لا نجد لإثابة ورقة على ما فعل لنا من الطيبات إلا أن نعطيه منى نفسه لمياء، وإنا في هذا الزواج لرابحون. قال: ليكن هذا في الغد.

انصرف قوزمان وهيلانة من مجلس الأمير مودعين منه بأطيب التمنيات، حينما كانا يدعوان له بالرغد وطول البقاء، ورآهما ورقة خارجين فلما يشأ أن يلقاهما تفاديا من موقف أمثل بما فر منه، واختفى في غرفه حتى مرا به في طريقهما إلى سكن هيلانة.

أما ورقة فقضى الليل على عادته ساهرا في حراسة الأمير، وكان قمينا أن يدركه النعاس بعد ما لقي من الجهد في يومه، ولكن حديث هيلانة والأمير وما عرفه من جنوحهم إلى تحقيق أمنيته الغالية زاد في يقظته فلقد فرح قلبه بما صرحت به هيلانة من أن لمياء تحبه، وما فاه به قوزمان من أنها أبت ابن حاكم مصر رعيا لذكراه، وتمنى لو يراها الآن، ويأخذها بين يديه ويقبلها شكرا على حبها إياه ووفائها له، ويحمد الله أمام عينيها على أنها عرفت فرط هيامه بها. ثم تمثل الليلة السعيدة التي يقدر له فيها أن يلقاها على انفراد؛ ليروي لها قصة وجده بها، ويذكر لها أنه كان في خلوته ووحدته، في الليل وفي النهار، وفي الصحراء والدار، وفي الحل والترحال يتمثلها ويراها عيانا بيانا، كأنما رسمت صورتها على حدقة العين، فكل ضوء يمر بها يعكس على فؤاده صورتها الجميلة فتزيد أوار قلبه، ولكن، يا لله! ماذا يقول عنه أستاذه إذا جاء فوجد لمياء حليلة له بغير إذنه! نعم إن الحارث لا يأبى زواج ابنته منه لو كان حرا، ولكنه لن يكون كذلك حتى ولو جاء إلى الإسكندرية وبعد عن مكة والنضر. سيرعى سلطة النضر عليه، وسيأبى على كره منه إعلان رضاه عن زواجه من لمياء. أليس من الخير إذن أن يترك الأمور تجري فيما يشاء لها ولا يعترض؟ ولكن كيف يملك أن ينظر إلى أستاذه نظرة البراءة التي اعتادها ؛ ليظفر منه بنظرة الحب التي كان يغمره بها . هذا ما لا يطيقه.

استمر ورقة يفكر على هذا الأسلوب حتى السحر، والقصر صامت ساكن، لا يسمع فيه إلا أقدام الديدبانات تروح وتجيء، والليل طارح عليه ملاءات من أديمه، لا ترى فيه إلا أشباح الجند، وظلال أقتم من الليل للتماثيل القائمة في جوانب المماشي والطرقات، والبحر من وراء الأسوار يزمجر ويضطرب منذرا أهل اليابسة بويلاته إذا هم شمخوا بأنوف سفنهم وقلوعهم أكثر مما يجب، وضوء المنارة يكتسح الظلمة عن البحر؛ ليكشف ما عليه من السفن الضالة ويدلها على مرفأ السلامة. حتى إذا أوشك الديك أن يصيح معلنا بقدوم الفجر، صمت الديك وأغرقت الطبيعة فيما كانت فيه، وإذا هي تحيا بنقر أمثل بالطبيعة وأليق بزمجرة البحر. دقات تلو دقات على دف ليس كمثله في الدفوف: رق من خشب صلب وحديد مثبت في إطار من حجارة، فكان لها دوي رهيب. ذلك أن الفرس كانوا قد بلغوا الإسكندرية بخيلهم ورجلهم، ونصبوا دباباتهم ومجانيقهم حول الأسوار، وأخذوا يضربون باب الشمس بالجلامد، وينيرون الظلام بنيرانهم الأغريقية؛ لينبهو الحراس فيفتحوا لهم، ولكن الحراس كانوا غلاظ الأكباد فلم يجيبو سؤلهم، ولم يردوا عليهم إلا بنبرات من حجارة وحديد تخبرهم أن للأبواب طلاسم لا تفتح إلا عليها.

لم يكن لورقة بعد ما سمع إلا أن يوقظ الأمير؛ ليخبره بقدوم الفرس، وكان جماعة من كبار ضباط الحامية قد وردوا إلى القصر؛ ليعلنوا الأمير بوقوع الحصار الذي كان منتظرا لعل لدى الأمير أوامر جديدة في هذا. فما إن ارتدى حتى نزل إليهم، وكان أهل القصر قد تنبهوا على دوي القذائف فهبوا من مراقدهم مذعورين إلا الذين اعتادوا الحصار من قبل فلم يأبهوا لما وقع؛ لأنهم كانوا يعلمون أن الأسوار لم تبن؛ لتتهدم بل لترد العوادي، وأن هذه الأسوار لم تقتحم فيما مضى حتى تقتحم اليوم،

1

ناپیژندل شوی مخ