132

تدبير الله

غلب النوم على لمياء في تلك الساعة مما هد قواها من الهم؛ فحمدت أمها وجدها لله هذا الفضل، ونهضا؛ ليعاودا الحديث في شأنها، ويدبرا الخطة لإعلان نيفرت بما استقر عليه رأيهما في أمر لمياء، وكانت عمدتهما في ذلك أن الحارث لم يقر هذا الزواج، وأن هرميون اشترطت لإنفاذه أن ينال موافقته. نعم، إن عمتها دعت البطريق، وأعدت كل شيء، ولكنها تصرفت في ذلك من تلقاء نفسها، وإذا ثارت عمتها وزمجرت وغضب زوجها لهذا، واستاء فلا يصح أن تأبه هرميون لذلك، بل يجب أن تجابهها إذا اقتضى الحال بأنها لا تغضب زوجها في مرضاتها، وإذا أمعنت نيفرت في تأنيبها لم يعد أمامها إلا أن تعلنها بما عرف أبوها من أهل الإسكندرية، وهو أن ولدها ذو خدينة وذو ولد، وأن العمة تعلم ذلك، وأرادت أن تضحي بابنتها من أجل ولدها، وما كان يليق بها هذا.

على هذا اتفقا وتركا للظروف تدبير التفاصيل، وما كانت هرميون في حاجة إلى من يقويها أو يشد أزرها؛ لأنها ستتكلم بلسان الأم التي رأت ابنتها الوحيدة منذ دقائق على وشك الجنون، وهي الآن نائمة كالملك المطهر على وعد من أمها وجدها أن ينقذاها من الهاوية البعيدة الغور التي كانت على وشك أن تتردى فيها، ولكنها رأت أن يسبقها أبوها إلى غرف عمتها؛ ليحضر هذا المشهد، ويحول دون عوارض الأمور، وأقرها قوزمان على هذا الرأي.

نهض الجد يلتمس غرف أخته، وقد استعد هو أيضا للنضال معها، وكان يعلم ما هي عليه من الشدة، حتى لقد تلجأ إلى التواقح والإساءة البالغة لأهون سبب، ولكنه ما دخل عليها حتى رآها مكتئبة اكتئابا شديدا، وخشي أن تكون قد سمعت بما جرى قبل أن تسمعه من هرميون، وأنها توشك أن تنفجر فأخذته الشفقة على ابنته، وقال: خير أن أتلقى أنا أول صدماتها من أن تتلقاها هرميون المسكينة، وعزم أن يتولى النضال عنها. فلما حياها ليفتح الحديث، ولم ترد عليه التحية؛ لأنها كانت مشغولة بالتفكير في أمل جلل، وجد في ذلك الفرصة الصالحة فقال: ما بالك يا أختاه لا تريدين تحية أخيك! هل هانت كرامتي لديك بعد أن شفي زوجك ولم يعد في حاجة إلي؟ قالت وقد تنبهت: معاذ الله يا أخي. فقاطعها: عذت بمعاذ يا أختاه! ولكني وحقك، وحق أبي وأمي لا أبقى في بيتك بعد يومي لا أنا ولا ابنتي! أكذا تعامليني وأنا ضيفك؟ أم ترين أني بعض من يلتمسون برك. ثم دار على أعقابه يريد الرجوع إلى غرفه ليعد حموله. فنهضت أخته هلعة فزعة مما سمعت وأمسكت بأردانه تقول له: وحق القديسين جميعا ما سمعتك ولا رأيتك، قال: أيمكن أن يكون ذلك؟ قالت: هذا هو الواقع وربي، ولو تمهلت لعذرتني وأيقنت أني صادقة. اجلس بربك، فلم يجلس. قالت: قدر حالتي يا أخي، لقد أعددت كل شيء لحفلة العرس، فأرسلت أدعو جميع الحكام ووكلاءهم، وأرسلت في طلب الذبائح، وفي طلب الطحين، والفاكهة وكل شيء على أثر ما رضي مولانا البطريق أن يتولى الإكليل لدميان ولمياء ، ولكني علمت الآن قبل مقدمك بدقائق أن البطريق مات أول أمس في دير الهانطون؛ فانظر أي هم وقع علي وأي خسارة، ولقد اعتراني دوار شديد وضيق حازب؛ لأنه لا بد لنا أن نلتزم الحداد عليه هنا ثلاثة أشهر وعشرة أيام، فهو كما تعلم من أدنى أقارب زوجي. قال قوزمان: هذا حادث كبير حقا، فلا تؤاخذيني بما بدا مني، ولكن لعله من الخير أن وقع. قالت: لماذا؟ قال: لأن الحارث أبا لمياء لم يوافق على هذا الزواج، ولا يصح أن يجري أمر هكذا بغير رضاه. قالت متهكمة: الحارث! من هو ذا الحارث؟ قال قوزمان: هو زوج ابنتي وأبو لمياء! صاحب الحق عليهما ولو كان اليوم بعيدا! ولقد كنت أؤمل أن يجيء رده بالقبول، ولذلك لم أتدخل، ولا سيما حين علقت هرميون إنفاذ الأمر على مشيئته. أما الآن فلم يعد لها أن تجيزه ولا لي أن أغضي الطرف عنه. قالت: وهرميون ما رأيها؟ قال: لا رأي لها عندي بعد ما جاء رأي الرجل الذي يثق بي وبمروءتي، ولذلك فإني راحل على كل حال في الغد، وسأرسل في طلب الحارث، وأجيء به إليك لعلك تقنعينه بصواب رأيك، فإن أمامك الآن متسعا من الوقت. فصمتت العمة هنيهة، ثم قالت: لا بأس، ولكن هرميون، أهي مرتاحة إلى رفض زوجها؟ لا أظن ذلك. قال قوزمان: كانت بالطبع تتمنى أن يوافق، ولذلك قبلت ما عرضت عليها على الفور، قالت: عدني أن تكون معنا قال: لا أعدك بشيء يا أختاه. إني أكره أن يذكرني الناس بالشر في شرهم، وبالنكران في خيرهم. لن أتردد في إبداء رأيي في المصلحة. قالت: وأنت ترى المصلحة في هذا الزواج على ما أعتقد. قال قوزمان مراوغا: إن فتى نبيلا عفيفا من صلب جرجيس هو خير زوج للمياء الوديعة الجميلة. زعمت الأم أنه يعني ابنها فشكرته على ذلك.

ذهب قوزمان إلى ابنته وهو يعتقد أن الله الذي يحب لمياء هو المدبر لذلك، ويعتقد كذلك أنه لولا خطؤه، وما بدا منه من الشدة في مقابلة أخته؛ لعدت عليه رأيه الذي أبداه في نصرة الحارث جريمة يستحق عليها أن تفرغ على رأسه غضبها لكلامه، وما كان في قلبها من الهم لحادث موت البطريق الذي أفسد كل شيء.

ألفى قوزمان ابنته في غرفة لمياء، وخبرها بما جرى بالحرف تلو الحرف وهو سعيد بهذه الرواية. فرأى ابنته تجثو على ركبتيها شكرا لله، ورأى لمياء قد أفاقت من نومها ونهضت تقبله وتشكره وتبكي من شدة فرحها، وهي تقول له: كنت أعلم يا جدي أنك منقذي، وإن لم يبد لي منك إلا وجه متألم لما يعدون لي. فأخذتها هرميون من صدر أبيها وضمتها إلى صدرها، وأخذت تبكي وتحاول الاعتذار إليها فلم تستطع أن تبين ... وكان على لمياء عند هذا أن تطلق شمس السعادة في الغرفة وفي الدنيا برمتها. فنهضت مرحة تقول لهما: إن علينا أن نعد الحمول للرحيل، وسأعين جدي على ذلك على أن يعينني هو أيضا قبل أن يذهب إلى غرفه. قال وهو يبتسم: ما هذا يا لمياء؟ ما أراك فعلت شيئا. قالت: بل فعلت كل شيء. أبقيتك في جواري هنا وهناك. لن أفارقك بعد الآن. فأخذها وقبلها وقال: ولا أنا، ولكن علينا أن نكتب رسالة إلى أبيك نطمئنه فيها عليك، ونعلنه بأننا نزلنا على رأيه، ونسلم الرسالة إلى رسول حاكم عيذاب. انهضي أنت يا هرميون، فابدئي بخطابك. قالت: لقد أعددته وأنت مع عمتي، ودعوته إلينا فادعه أنت أيضا، وادعيه يا لمياء. قالت: هذا ما كنت عازمة عليه. •••

بعد أربعة أيام من ذلك اليوم المبارك كانت لمياء وأمها وجدها في البيت الذي قضت فيه طفولتها، وما كان أسعدها أن تروح وتجيء فيه، وتنزل البستان تشارك حارسه في تجميله، وبلابله في الغناء على أغصانه، ولكنها كانت حريصة ألا تغشاه في وقت يكون فيه بطرس في البيت، وإن كان مقامه منه في ناحية غير ناحية البستان، ولكنها مع ذلك كانت تراه واقفا في ظل شجرة هناك، أو مختبئا عند عطفة من البيت، أو عند أحد التماثيل. تجد في عينيه ذلك البريق الذي كان يخيفها، فيتمثل لها بعض النمور التي شاهدتها فيما مضى في أقفاصها في حديقة قصر الوالي أيام كانت تزور خالتها وهي طفلة، ولكنها ترى أحدها الآن سائبا طليقا يوشك أن ينقض عليها، ولذلك كانت تعجل إذا رأته بصعود درج السلم والدخول إلى البيت ممتقعة اللون، وفيما هي تصعد السلم ذات يوم رأت بطرس قد تبعها، ثم انفتل على حين بغتة خارجا من باب البيت إلى الشارع، وذلك لأنه أحس خطوات آتية من الداخل فانصرف عما كان في نيته فعله وخرج معاجلا، وكان القادم إذ ذاك هرميون أم لمياء. فلما رأتها كذلك هلعت، وسألتها عن سبب هلعها فقالت: لا أدري يا أماه، لماذا أخشى هذا الرجل الذي يكتب لجدي؟ إن في عينيه بريقا يذعرني، كما أني لا أدري لماذا يقف تحت الأشجار ووراء التماثيل ينظر إلي. يخيل إلي حين تلمحه عيني وأنا غافلة عن وجوده معي أنه لص يريد أن يغافلني ليقتلني. لا أظن أن به حاجة للوقوف مني هذا الموقف إلا أن يكون في نفسه شر يريد أن يلحقه بي، وأقسم لك يا أمي أني كنت أرى كل الشر في عينيه حين كان يروي لي أخبار دميان في غرفة جدي حتى خيل إلي أنه كاذب، وأنه يريد أن يوقعني في شر لولا ذلك الخطاب الذي رأيته، ولما استحلفني ألا أبوح لأحد بأنه هو الذي أعلمني بكل خبره، خيل إلي أنه بعض تدبيره لأذاي. بل كنت ساعة يمن عليكما في السفينة بأنه هو الذي أطلعني على أخبار دميان حتى أنقذتموني منه - ويحلني من ذلك القسم الذي أقسمته - أرى في اعترافه هذا شرا يبيت لي، هو ما يدل عليه اختباؤه وراء الأشجار والتماثيل والعطف. ألا يمكن يا والدتي أن يستغني عنه جدي ليفارقنا؟ قالت هرميون: لا أظن ذلك يا ابنتي، إنه منه كما كان ورقة من أبيك. فصمتت لمياء، وغابت في مكة وهدى ونجران هنيهة تمثل لها ورقة فيها وأدبه وظرفه وخلوص طويته، وقالت لأمها: أين هذا النمر المفترس من ورقة النبيل العفيف؟ أين يا أماه، ليته معنا هنا ! إذن لكنا أسعد خلق الله! خيل إلي يا أماه حين وصلنا إلى ميناء فيلاق أني رأيته بباب أحد الحوانيت، ولولا أنه كان في لباس عسكري وقبعة رومية ما اعتورني في أمره شك. ألا يجوز يا أماه! أن تكون رسالة الوداع التي أرسلتها إليه قد جاءت به إلى الإسكندرية؟ إنه يحبنا يا أماه حبا خالصا، ويعلم أننا نحبه ونعرف قدره. منذ تلك الساعة لم يفارق شبحه عيني، بل إني وحقك أرى شبحه الآن يتردد أمام عيني وكأنه يلوح من وراء السور، ولكن العجب أني أراه في لباس الجند. ها هو ذا: انظري معي يا أماه. عجلي قبل أن تخفيه أغصان الياسمين، وي! لقد اختفى ومضى في طريقه. ذهب يا أمي. ليته يعود!

هلعت هرميون لهذا الحديث، وظنت أن ابنتها أصيبت لوجدها بعارض من الجنون، فالتفتت إليها وتمعنت في عينيها، فوجدت فيهما دمعتين تترددان في السقوط، فأخذتها إلى صدرها، وهي تقول: ماذا يا لمياء؟ أين ورقة منا الآن يا بنيتي!: قالت: خيل إلي يا أمي، أني رأيته من وراء السور، وأنه كان ينظر إلي ... ثم نظرت مرة أخرى إلى السور فرأت ورقة قد عاد ينظر من بين القضبان، وإذ وقعت عينه عليها ابتسم لها فلم تشك لمياء في أنه هو، وأفلتت من ذراعي أمها، وصاحت: إلينا يا ورقة! إلينا! فازداد هلع هرميون، ولاسيما حين خلتها ابنتها وجرت نحو الباب فاتحة ذراعيها وليس هناك أحد.

خيل إلى هرميون أن ابنتها جنت فعلا، وأنها الآن شاردة في الطرقات شرود المجنون، ولكنها رأت الباب يفتح ويدخل منه فتى في لباس الجند، ورأت ابنتها تعانقه وتقبله، وهو يعانقها كذلك ويقبلها قبلة المحب الشيق، ثم يرى هرميون فيذهب إليها ويعانقها هي أيضا ويبكي على كتفها بكاء الطفل المشوق.

كان هو ورقة بالطبع جاء يتنسم الأخبار، ويستمد قطرات السلوى من معالم الدار فإذا به يجد الأحباب بين الأشجار والأزهار، فدخل، ولم تقو نفوسهم على هذه المفاجأة السعيدة بعد كل ما لقوا من الشقاء، فأسقطوا كل عرف وأزاحوا كل ستار، وتركوا للقلوب هنيهة من الزمان تسعد فيها بالحق، وتؤدي أمانتها من غير تحفظ ولا رياء ما دامت مطهرة لا تلوثها لوثة من نفس سافلة.

ناپیژندل شوی مخ