على أنه ما كان يستحب السيد دميان زوجا لابنته لمياء؛ لأنه رآه في الإسكندرية في بعض زياراته لخاله قوزمان فلم يعجبه حاله، وعرف من بطرس البحريني التقي الورع، المكتب على الدرس والنسخ والعلم شيئا عاما من تصرفاته لم تكن مما يشرف فتى نبيلا؛ رآه في ذلك الأيام مغرى بالخمر مولعا بما لا يولع به إلا السفهاء من حب الميسر والمراهنة، وإدمان حضوره ليالي التمثيل ودور الملاهي والمراقص، وكان لا يتورع أن يقيم الولائم في غياض مريوط للفسقة والجواري والراقصات حتى لقد تغيب عن المنزل ثلاث ليال قضاها على تلك الحال في بعض خبايا أصحابه في الإسكندرية، وأشفقوا أن يقضي نحبه بينهم فحملوه إلى بيت خاله وهو على شفا جرف الموت تسمما بما شرب وتهدما من أثر ما بغى، وعجب لامرأته الرشيدة كيف ترضى لابنتها المطهرة بعلا كهذا، ولو كان ابن عمتها وابن حاكم مصر! ولذلك تناول رقعة فكتب عليها رسالة الرفض والتأنيب لامرأته وهو على أشد ما يكون الوالد من الألم والحسرة والحزن على ابنته. فما أن خط فيها بضعة أسطر حتى شعر بانقطاع قدرته على الاسترسال في الكتابة، فترك الرقعة بجواره وأخذ يفكر، وتغلب على نفسه، واعتزم أن يسافر إلى منف ويعمل بنفسه على إحباط الزواج، ولكنه كان قد ركبه مرض شديد ألزمه الفراش فلما عاد صاحب السفينة ، حين انتوى العودة إلى مصر؛ ليأخذ منه رد الرسالة، وجده محموما لا يعي، ووجد عنده رجالا كثيرين لم يعرف أن منهم ولده النضر، ووجد كذلك بعض النسوة من أهله، فأدرك أن الأمر خطير، ولما لقيه النضر لم يدله على مكانه من الحارث، وإنما اكتفى بأن قال له: ها أنت ذا ترى الحارث مريضا بحمى الدماغ، فهو لا يعي الآن حديثا، ولعل رسالتك سبب ما هو فيه فعد إلى من أرسلك بما ترى. هذا أوضح جواب على أني وجدت حين دعيت إليه رقعة كان يكتبها فيما أظن لامرأته يؤنبها فيها على شيء لم تدل عليه الأسطر القليلة التي استطاع أن يكتبها قبل أن يغشى عليه، فهو يؤنبها ويسفه عملها بل أرى أنه يلعنها إذا هي نفذت عزمها، وفي اعتقادي أن الزوج لا يلعن زوجته إلا إذا كانت قد أساءت إليه إساءة لا تحتمل عفوا، أو يكون قد جن بفعلها، وكلا الأمرين عصيب. فخذ هذه الرسالة المقتضبة معك فهي كل إرادة الرجل فيما أظن. قال الرسول: ألم تطلع أنت يا سيد على الرسالة التي جئت بها إليه؟ قال النضر - وإن كان قد اطلع عليها فعلا وعرف ما فيها -: لا. ليس من حق طبيب مثلي غريب عنه أن يفتش، وإنما وجدت هذه الرقعة التي أعطيتك إياها بجوار فراشه. قال الرسول: أظن أنه زواج إحدى بناته من دميان ابن حاكم منف. هكذا خبرني الغلام الذي جاء بالرسالة إلى عيذاب. أهو صهر العالم قوزمان يا سيد؟ قال: نعم. قال: علمت من رسول القيصر أن قوزمان غير مرتاح إلى هذا الزواج؛ لأن هذا الفتى من فساق منف المشهورين قال النضر: قد يكون ذلك، فقد سمعت الحارث يهذي في بحران حماه شاتما دميان هذا، ولاعنا امرأته أيضا. قال الرسول: سأكتب رسالة بما رأيت وسمعت منك، وأضع معها هذه الرقعة، وأرسل الاثنتين في لفة واحدة إلى قوزمان؛ لتقع في آمن يد. فهو في منف كما علمت من غلام القصر؛ ليداوي سيده. قال: تحسن صنعا.
نهض النضر إذ نهض الرسول للخروج من البيت، واستمر في تنكره المقصود يقول: إن لهذا الرجل العظيم ولدا طبيبا في مكة سأرسل في طلبه؛ لأني لا أريد أن أتحمل التبعة وحدي في مرضه. قال الرسول: تحسن صنعا أيها السيد. إني أراه في شدة، وانصرف الرسول على هذا، وعلى أن محدثه من أطباء مكة، لا أنه النضر عدو هرميون العامل على أذاها وإن كان الخير فيما دبر الآن. على أن كل قصده إنما كان أن يؤلمها، ويقاوم مشيئتها حسنة كانت أو سيئة.
الفصل الثامن والثلاثون
ترهب القلب
أبل حاكم منف، وتهيأت النفوس لإتمام الزواج بالرغم من أن هرميون كانت تستمهل عمتها حتى يجيء جواب الحارث، وترى رضاه ضروريا، وبالرغم من أن لمياء آذنت أمها أنها لا تجد في نفسها ارتياحا إلى الزواج من ابن عمتها هذا، وإن لم تستطع أن تبدي سببا لهذه الكراهية تقتنع بها أمها، وخيل إلى أمها في ذلك الوقت أنه نشور هواها الدفين، أو هو ما بقي من أثر مقارنة كمال خلق ورقة وأدبه إلى جراءة دميان وصلفه. نعم، إنها لم تر من لمياء هياما بورقة، ولكنها كانت تشعر أن تعلقها به ليس إلا عرضا من أعراض حب قد لا تكون تعرف يومئذ أنه الهوى، ولكنه الهوى على كل حال عرفت أو لم تعرف. فهي إذا لم تجد في ابن عمتها ما كانت تجده في ورقة؛ فذلك لأنها لم تحب ابن عمتها بعد، ولكنها ستحبه بعد الزواج فلا خوف من هذا، ولكن الحقيقة أنها بالرغم من دوام تفكيرها في ورقة ومناجاة قلبها له في كل خلوة وفي كل ليلة كانت تعتقد أن الدهر قد قطع بينهما وفرق، ثم لا وصل بعد هذا ولا اجتماع، وأصبحت ترى أن لمياء الماضي قد ماتت كما تموت الراهبة، وأصبح سواء في الدنيا أن تتزوج دميان أو سعفان ما دام أهلها يريدون زواجها، ويرون هذا حدثا عظيما حين أن لم تعد تهمها نفسها. سوى أنها رأت دميان ذات يوم في بستان القصر، وكان فريدا وكانت فريدة فحيته ورد التحية كأنما هي ابنة البستاني الهينة عليه، ولم يبتسم أو ينهض للقائها والحديث معها على عادة الخاطبين أو الأصدقاء، فتنبهت نفسها على ألم مهانة نالتها؛ إذ شعرت كأنه يريد أن يقول لها: إن زواجي منك برغم إرادتي، وإذا أنا رضيت بأن أتزوج منك فذاك نزولا على حكم أمي، لا لرغبة مني فيك أو لمزية لك. فاحتملت آلامها وصعدت حتى إذا لقيت أمها أبدت لها عدم ارتياحها إلى هذا الزوج، وذكرت بعض ما لقيت منه من مظاهر الاستهانة بها، ولكن أمها استنتجت لها من ذلك الجفاف معاني التحشم والأدب الذي فطر عليه الفتى، وغير ذلك من القول الزائف. فعادت الفتاة إلى سابق سكوتها وارتقابها يوم ينتهي أمرها بزفافها إلى دميان، وانتحارها بالزواج.
على أن والدتها كانت قد بدأت ترى عود ابنتها يذبل، وجنحت نفسها إلى العدول عن زواجها، ولاسيما بعد ما سمعت قصة فتور دميان من ناحيتها وإهماله شأنها، وبعد ما كانت تسمع من أخبار مبهمة عنه، ولكنها كانت قد قبلت هذا الزواج، وإن كانت قد علقته على رضا الحارث، وكانت العمة قد عدت هذا القبول منها نهاية القبول، وأخذت تعد للحفلة عدتها من التفكير والتدبير، وشايعها زوجها في ذلك إلى أبعد مدى؛ إذ كانت صاحبة الرأي الأعلى في بيتها، بل وفي كل شيء حتى في حكم مصر نفسها، ولم ينفع هرميون جوار أبيها؛ لأنه على ما كان يعرف من فساد خلق ابن أخته امتنع عن أن يبدي لها رأيا فيما عرضته أخته، قولا بأنه أقل الناس خبرة بالناس. على أنه لم يشأ أن يعترض مشيئة أخته ثقة منه بأن نصيحته لابنته لن تنتهي إلى خير، ولا سيما لأن أخته كانت قد أرسلت منذ مدة خطابا إلى البطريق أنستاسيوس اليعقوبي تلتمس منه أن يباركها بزيارته إياها في منف، وتنازله بقضاء أشهر الشتاء في ضيافتها؛ ليتولى في غضونها مراسيم إكليل ابنها دميان على لمياء ابنة الحارث حفيدة قوزمان، ورد عليها البطريق المحترم قابلا دعوتها ومجيبا هذا الرجاء إكراما لها ولزوجها وأخيها قوزمان وللحارث زوج ابنة أخيها، وأنه ينوي أن يعجل بالقدوم عليها بعد انصراف أثناسيوس بطريق أنطاكية الحبيب الذي جشم نفسه مشقة الأسفار؛ ليقيم اتحادا بين كنيستي أنطاكية والإسكندرية
1
اليعقوبية، وأنه لهذه المناسبة السعيدة قد أرسل إلى أسقف كنيسة المعلقة
2
يعلمه بأنه سيقيم عيد ربه ومخلصه يسوع هذا العام في كنيسته.
ناپیژندل شوی مخ