التفت ورقة وهيلانة إلى القائل فإذا هو جندي رومي مميز ممن أعدتهم الحكومة لمراقبة الواردين من الشرق إلى أثريب والطالبين الإسكندرية في سفن الترعة الفرعونية، على رأسه خوذة، وفي يده درع من النحاس، وفي منطقته سيف سميك، وقد ترك شواربه تتدلى على جانبي فكيه، وتملأ وجهه وحشية تنفعه في القتال.
تأملاه فشد ورقة خطام ناقته استعدادا للسير، والتفت إلى هيلانة كأنه يلفتها إلى ضرورة الابتعاد عن المكان الذي يتحكم فيه هذا الجندي، ولكنه رآها تتمعن في وجه الرجل ورأى شفتيها تسايران نجوى نفسها في النظر إليه، ثم انطلقت كلمة منها في مواجهته تقول: كوسموس!
فالتفت الجندي إليها إذ كانت هذا اسمه فعلا، ولكنه لم يعرف مناديه؛ لأنها كانت قد تزيت بزي العرب في مرافقة ورقة منذ خرجت من معان وتلثمت، فلاحت في صورة لا تدل على شيء، ولأن العهد بينهما بعيد، والصلة بينهما مقطوعة من زمن طويل، وأدركت هيلانة أنه لم يعرفها؛ لتنكرها، أما هي فلم يخف الرجل عنها، وإن كان قد كبر قليلا عنه يوم كان من حراس زوجها في منوف، وإذ التفت إلى القائل كأنما يسائله من المنادي، لم تشأ أن تعرفه من هي إذا أمكن أن يتذكرها ويعرفها هو بالنظر إليها، ولكنه لم يعرفها، فقال وهو ينظر إليها: من يناديني؟ فأزاحت هيلانة شيئا من لثامها؛ ليلوح له شيء من أنوثتها لعله يتذكرها، وقالت: ألا تزال تنكرني؟ فتمعن الرجل في وجهها، وقال متسائلا في شك عظيم: سيدتي هيلانة! قالت: نعم. قال: مرحبا بسيدتي العالية، مرحبا! كيف حالك يا سيدتي، وحال مولاي؟ قالت: وقد جهدت نفسها على التجلد: نحمد الله، وأنت يا كوسموس وأولادك؟ قال: نحن لا ننساك يا سيدتي، ولا ننسى سيدي، ثم تناول كوسموس خطام بعيرها، وأشعرها أنه يريد إناخته فأذنت، ولما بلغت قدماها الأرض تناول الجندي يدها فقبلها، ووقف في خضوع يحادثها وفي نفسه ألف سؤال وسؤال، ولا سيما لأنه رآها وحيدة ورأى معها فتى عربيا، ولكنه آثر ألا يحرجها بأسئلته فلعله يستطيع أن يعرف من حديثها معه ما يريد أن يعرفه، وكان ورقة قد أناخ هو أيضا، وجاء ليكون معها ساعة الحديث. فلما رأته قالت لكوسموس: هذا فتى نبيل يا كوسموس. أمكن إخوانك أن يخرجوا بي من القدس؛ ليوقوني شرور الفرس، وجئت هنا في حمايته. فالتفت كوسموس ينظر على الفتى نظرة ثناء وتحية ردها ورقة بمثلها حين كانت هيلانة تتم كلامها، وهذه الناقة العظيمة عزيزة عنده ، وهي كذلك عندي؛ لأنها تسابق النعام، فهل لديك حيلة هينة؛ لتكون معه في الإسكندرية؟ قال: والله إن لدي شاريا لها يريد أن يبلغ القدس في أقصر زمن، ولو طلبت فيها مائة دينار ما تردد. قال ورقة: لا أبيعها بألف. قال: إذن فلنجعلها في إحدى سفائن الجماهير والبضاعة الذاهبة إلى الإسكندرية وما أكثرها. قالت: بل أرى أن تستأجر لها راكبا يلحق بنا في بيت أبي الذي تعرفه. قال كوسموس: حبا وكرامة. قالت: وأما البعير فأرجو منك أن تبيعه. قال كما ترين يا سيدتي. أما الناقة فإن لدي صديقا من أكبر تجار الغلال في الإسكندرية ونوابها في المجلس اسمه أورست يريد العودة إلى الإسكندرية مسرعا، وسيكون سعيدا بأن أعرض عليه ركوبها؛ لأنه يستطيع أن يبلغ بها الإسكندرية في ضحى الغد، ولكني أخشى أن سيبقى في مريوط أسبوعا. قالت: لا بأس. هذا أصلح. قال: حسن جدا وسيدفع الراكب أجر ذلك لصاحبك دينارا. إن الأجور اليوم عالية جدا، والرواحل عزيزة جدا قال ورقة: شكرا لك، ولكني لا أريد أجرا. حسبي من أجره أن يعنى بها ويوصلها إلي سالمة. قال: ليكن ما تريد. سأبيع هذا البعير قبل أن تركبا السفينة. إن لدينا من سفن القصر واحدة خالية. هل أعدها يا سيدتي؟ قالت: إذا لم يكن في ذلك بأس فافعل قال: أي بأس يا سيدتي! هي سفينتكم، وهل يملك التصرف فيها أحد أكرم منك! قالت: أعدها إذن، ولكني أرجو منك أن لا تخبر أحدا بأمري إن شئت حتى أرحل عن أثريب. قال: لك الأمر يا سيدتي، ثم دعاها للاستراحة في جوسق له على النيل ريثما يعد السفينة، ونادى بعض رجاله؛ ليحملوا الجوالق إلى الجوسق، ويبقى أحدهم لحراسة الجمال.
الفصل الرابع والثلاثون
في الإسكندرية
يخيل إلينا وورقة تسير به هيلانة في سفينتها الأميرية ناشرة قلوعها في النيل عند أثريب، ثم منسابة في الترعة الفرعونية فقاطعة جزيرة منوف على خط مستقيم حتى تصل إلى فرع رشيد بجوار نيقيوس
1
ثم هابطة مع النيل قليلا؛ لتنحدر هناك مغربة في جوف الفرع الكانوبي
2
وتسير حتى تصل إلى تيمنهورس (دمنهور) وبعدها إلى الكريون
ناپیژندل شوی مخ