في معتقدكم، فالآلة تامة، والعلّة منزاحة، وما كلف بما كلفتم إلّا بحكمة بينة، وطريقة في فنون الصّواب ثابتة، وإنما خلقهما في ستة أيام ليعرف عباده أن الرفق في الأمور، وترك التّعجل هو المرضى المختار في التّدبير لأنّه تعالى لو شاء أن يخلقهما في أدنى اللّمحات، وأوحى «١» الأوقات لما مسّه فيما يأتيه إعياء ولا لغوب، ولا أعجزه كلال ولا فتور.
وإنّما أراد أن يحدثه حالا بعد حال لتدرك ثمرات عبرهم شيئا بعد شيء، وليتأدّب أولو البصائر بآياته، وحمله قرنا بعد قرن، يبيّن هذا أنه تعالى نهى نبيّه ﵇ فيما يتلقّاه من وحيه، ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا
[سورة طه، الآية: ١١٤] وقال أيضا: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ
[سورة الإنسان، الآية: ٢٣- ٢٤]، ثم جعل فيما نزّله مجملا ومطلقا ولو شاء لجعل الكلّ مفسرا، ونعى على الكفار لما قالوا: لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة. وقال: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا
[سورة الفرقان، الآية: ٣٢] وهذا أحسن.
وقال بعض مشايخ أهل النّظر: لو أراد الله تعالى أن يخلقها ويخلق أضعافا كثيرة معها لفعله، وهو عليها قادر لكنه جعلها في ستة أيام ليعتبر بذلك ملائكته الذين كانوا يشاهدونه، وهو يحدث شيئا بعد شيء في هذه الأيام الستّة عبرة مجددة، ويستدل بكل ما يحدث دلالة مستأنفة وليكون ذلك زيادة في بصائرهم، والحجة التي يقيمها عليهم، فقيل له في ذلك: إن كان ذلك حكمة فيجب أن يطرد في جميع ما خلقه وليس الأمر على هذا على أنّ ذلك ليس بسائغ لأنّ الملائكة لا يستغنون عن مكان يحويهم وإذا كان لا مكان في العالم إلّا السّماء والأرض فليس يعقل كون الملائكة قبل كونهما.
ويمكن أن يقال: في هذا والله أعلم أنه تعالى أعلمنا أنه أحدث شيئا بعد شيء حتى وجدت عن آخرها في ستّة أيام، وبيّن لنا بذكر الأيّام السّتة ما أراد أن يعلّمنا إياه من الحساب الذي لا سبيل لنا إلى معرفة شيء من أمور الدّنيا والدّين إلا به، كما قال: وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ
[سورة يونس، الآية: ٥] الآية. فأصل جميع الأعداد التّامة ستة، ومنها: يتفرع سائر الأعداد بالغا ذلك ما بلغ إذ كان ما عداها من الأعداد ناقصا، أو زايدا.
ألا ترى أنّ لهذا النّصف وهو ثلاثة والثّلث، وهو اثنان، والسّدس، وهو واحد، وإذا حسبت جميعها كانت ستة، وعند من يعتني بهذا الشأن أن نظير الستة من العشرات ثمانية وعشرون، وكذلك لها في كل من المئتين والألوف نظير واحد، فالسّتة أول الأعداد التامة
1 / 34