ومضى العمدة يتحدث عن تعويضة، فقال: إنها هامت على وجهها منذ نفي زوجها فلم يرها بعد أحد في القرية ولا فيما حولها، ولم يعرف أحد لها مصيرا كأنها انطلقت في البر هاربة من نفسها، وامتزج الفرح بالحزن في قلب فؤاد، فإنها إن كانت قد نجت من التهمة لم تنج إلا إلى حياة مشردة مظلمة لا يدري أحد ماذا يكون فيها مصيرها، وعادت إليه صورة الزهرة في خميلة الشوك بالصحراء، لا يدري أحد متى ازدهرت ولا متى سقطت عن عودها، فلا أقل من أن يعبأ بها هو الذي عرفها وأنس إلى مودتها وكان لها في قلبه مكان أثير، فبالغ في السؤال عنها متظاهرا بأنه يمضي في تحقيقه ليستوثق من أمرها، وهو يخفي لهفة شديدة على جمع شوارد الأنباء عنها، فأخذ يسأل أين ذهبت إذ هامت على وجهها؟ وماذا اعتراها بعد نفي زوجها؟ وأين كانت تقيم؟ وكيف كانت تعيش؟
وكان في نفس الوقت يسأل نفسه هل ذهبت صباحة وجهها ونضارة شبابها أم لقد ذهب ذلك كله بين عشية وضحاها فذوى حسنها كما يذوي حسن الزهرة اليانعة في ليلة؟ ولقد كانت المسكينة تحمل في أحشائها جنينا وكانت تحب أن تسميه «فؤاد» باسمه، فماذا فعل ذلك الجنين المسكين الذي استقبلته الحياة جاهمة قبل أن يفد عليها؟ وكان قلب فؤاد يعصر عصرا أليما وهو يعود من أسئلته بالخيبة، حتى ارتج عليه كل باب في التحقيق، ولم يستطع أن يهتدي إلى شيء يكشف له سر الجريمة، وقد بلغ به الأمر أن تغاضى عن قسوة رجال الضبط في انتزاع الأقوال من أهل القرى المجاورة لعلهم يفتحون أفواههم بلفظ ينم عن حقيقة تفيده، فلم يوفق إلى شيء سوى ترهات تنتهي إلى سدود مغلقة، ولم يجد مناصا آخر الأمر من أن يطوي أوراقه في سجلها وينسب الجريمة إلى مجهول.
ولكنه مع إخفاقه في هذا التحقيق عاد إلى دمنهور وهو يحس في قرارة نفسه ارتياحا لا يدري ما كان مبعثه، أكان ذلك تشفيا خفيا من رجل يمقته؟ أم كان ذلك ذهابا مع بعض آرائه في العدالة التي تعمى عنها القوانين أحيانا؟ أم كان لأنه خلص من موقف أوشك فيه أن يلوث يديه بدماء تعويضة المسكينة؟
مهما يكن من أمره فقد تنفس الصعداء عندما فرغ من تحقيقه، ولم يبال ما كان يبلغ سمعه من همسات أقرانه ورؤسائه عنه، حتى إنه لم يشعر بشيء من الأسى أو الأسف عندما جاءه نبأ نقله إلى الصعيد بعد أيام، ولم يقف لحظة ليسأل نفسه أكانت هذه عقوبة على إخفاقه أم كانت لطفا ساقته إليه الأقدار؟! وجاء أصحابه يواسونه فيما حسبوه محنة ، ولم يعلموا أنه كان أسعد الناس في ذلك اليوم بهذا النقل ساقه الله إليه.
13
ذهب فؤاد إلى الصعيد وهو يحس كأنه هارب من موطن عبثت فيه الأقدار بقلبه وضميره وحياته إلى موطن آخر يجد فيه من آثار العالم الغابر ما ينسيه حاضره.
فكان كلما وجد فراغا من عمله أسرع إلى زيارة أثر من بقايا القرون الماضية في الأقصر أو إدفو أو العرابة المدفونة يسرح خواطره في الماضي البعيد، ويتحدث إليه عن زوال الإنسانية وحقارة همومها، ويسمو معه فوق هذه الحياة بما فيها من سخف وجور وقسوة وعنف.
كان يجلس في رحاب الآثار الفسيحة، ويتأمل عمدها الباسقة وهندستها الرائعة، ويخيل إليه أن أرواح الماضي تناجيه في رفق الحكيم، وتهون عليه ما يساوره من الشجون، فإذا ما اطمأن إلى حديثها تجرأ على كشف ما في أعماق نفسه وما يثور بها من آلام، فكأن نسيما من السلام يهب على وقدتها، كانت تلك الآثار تنطق له قائلة: «كانوا ثم ذهبوا» بعد أن خلفوا للحياة أحلامهم وخفقات قلوبهم مجسدة في صور منحوتة أو أشكال مرسومة يخيم الصمت عليها، كانت لهم مسراتهم، وكانت لهم أحزانهم، ولكنهم خلعوها مع أجسادهم الفانية فلم يبق منها إلا أصداء ضئيلة، ولكن تلك الأصداء سوف تتردد صافية على مر العصور، فتدركها الأسماع المرهفة التي تستطيع إدراكها وهي تهتف بالحقيقة الأبدية أن مادة هذه الحياة غرور باطل لا يبقى منها إلا الجوهر المصفى، مثل ذرة ثمينة لا تزيد على مثقال حبة من خردل في صخرة أو في السموات أو في الأرض.
ولكن «فؤاد» - مع كل ما حدث به نفسه ومع كل ما حدثته به تلك الآثار - كان لا يملك أن يبعد عن قلبه صورتين ما برحتا تلازمانه في كل جولاته: إحداهما صورة تعويضة والأخرى صورة علية، وكانت إحداهما تعصر قلبه رحمة وحزنا، والأخرى تطعنه خيبة ووحشة، وكان يتمنى أحيانا لو جالت علية معه بين تلك الآثار حتى يفضي إليها بما تحدثه به من احتقار عرض هذه الحياة التي لا يبقى منها إلا جوهرها الضئيل الثمين الذي يتمثل في الروح، في مثل الحب المصفى الذي يحمله لها، إذن لاستطاعت أن تدرك مبلغ ما ضيعت عليه وعلى نفسها بإيثارها فتاها الأجوف الذي لا يزيد على قطعة من جسد فان.
وكان أحيانا يصور في نفسه جدالا شديدا وعتابا قاسيا في أحاديث طويلة، يسرح فيها مع خياله فيعود إليه حنقه وتثور عليه كبرياؤه ويفيق من أحلامه الثائرة هامسا في نفسه: «أهذا هو الفتى الضحل الذي ارتضته وآثرته علية؟» ثم يخرج من المعبد العظيم الذي يجول بين أطلاله ثائرا على خياله الذي يطوح به إلى مثل ذلك الوهم البعيد، فما الذي يجعله يتجه بمثل هذا الحنق إلى علية؟! وما كان أحراه أن يتجه به إلى نفسه! ألم يكن هو الذي تركها تنفلت إلى ذلك المنافس الجريء؟ لقد كان في استطاعته - بغير شك - أن يستميل قلبها لو كشف لها يوما عن حبه صريحا قويا، فلا يقوى ذلك المنافس الأجوف على أن يهزمه عندها، بل لقد كان في استطاعته أن يقاوم بحبه الصادق ذلك الفتى ويصرع مظهره المزوق ويخسف أناقته المتبرجة ولفظه المعسول، ولكنه هرب من ميدانه في شيء لا يقل عن الجبن والضعف كأنه طفل ينصرف إلى مخدعه باكيا ينتظر من أمه أن تلحق به فتسترضيه رأفة به ورحمة لضعفه.
ناپیژندل شوی مخ