وعاد فؤاد في عصر ذلك اليوم إلى دمنهور وهو يحس في نفسه دبيب نشاط لم يحس مثله منذ سنين، وكانت صور شتى من تعويضة تلوح أمام عينيه عندما استقر في منزله، فتمثلها في طرحتها وهي تمد إليه يدها لتقبل يده، ثم وهي تبتسم له في خفر وتسرع عنه وهي تقذف بجوابها: «سنسميه «فؤاد» إذا كان ولدا»، ثم وهي تودعه قائلة: «لا تنس أن تزورنا».
ولقد سمع مثل هذه الكلمة يوما من علية المنعمة فهزته دعوتها وأثارت في نفسه أملا، ولكن تعويضة أثارت بكلمتها في نفسه شكرا، وسأل نفسه متعجبا: ما ذلك الذي يضمره في قلبه لتعويضة؟ وعجز عن اكتناه قلبه العجيب، إذ كان يتسع لمثل هذه المودة، وتجتمع فيه صورتان غريبتان ما أبعد إحداهما عن الأخرى: علية وتعويضة.
10
عادت الأحداث تشغل هم فؤاد مرة أخرى، فلم يفرغ لأحاديث نفسه أياما يتلو بعضها بعضا، يقضي نهارها وقطعا من لياليها في تنقل لتحقيق أمر جريمة أو في قراءة محضر جريمة أخرى، أو إعداد خطاب يلقيه يوم المحاكمة ويبعث به إلى السجن نزيلا جديدا، وكان يخيل إليه أحيانا أنه في جبهة قتال بين فئتين، ما تزال إحداهما تتربص الدوائر بالأخرى، أهؤلاء هم قومه؟!
وكان يقتطع من وقته قطعا يختلسها فيقرأ فيها صفحات من كتاب، فما يكاد يمضي في قراءته حتى يئز جرس المسرة فيدعوه فجأة إلى رحلة سوداء في صدر ليل أو في بكرة صباح، فيثب في شيء يكاد يكون ذعرا لكي يستعد لخوض المحنة التي يقضي عليه واجبه أن يخوضها.
وكثيرا ما كان يسأل نفسه ما هذا المجتمع الذي يعيش فيه هو وغيره من البشر كأنهم قوم واحد يظللهم وطن واحد؟ ما هذا الوطن وما سر ذلك الحب الذي يضم عليه جوانحه للبلاد العزيزة التي أضمر لها أعمق الحب منذ أدرك وعقل؟ أذلك حب صحيح أم هو وهم من أثر التلقين والإيحاء؟ أهو يحب هذا الوطن حقا أم هو يخادع نفسه بغير وعي؟ وما هو ذلك الوطن الذي يحبه ذلك الحب العميق القوي ويفنى في خدمته ويفديه إذا دعا داعي الفداء بكل ما يملك، نفسه وما دونها؟
ولكنه كان كلما أطال التأمل والتغلغل في أطواء ضميره بدا له أنه يحب ذلك الوطن حبا لا يعدله حب الوالد أو القريب والحميم، وكان كلما تمثل حال هذا الوطن وما يقاسيه من آلام وما يطمح إليه من آمال في الحرية والكمال أحس في نفسه حرارة لم يحس مثلها في حركة من حركات الحب أو الرحمة، أيكون كل هذا خداعا وإيحاء من أثر التلقين؟ إذن لقد كذبت كل طبائع الشعور، ولكن ذلك الحب الذي يضمره لوطنه لم يكن سوى حب غامض شائع غير محدود فلمن كان ذلك الحب الشديد؟
أهو لهؤلاء الذين يجاورونه في الدار أو يجالسونه في المنتدى أو يعاملونه في مهنة الحياة؟
أم هو لهؤلاء الذين يذهب إليهم بين حين وآخر محققا متهما يبعث البعض منهم إلى السجن أو يحشر البعض الآخر إلى محكمة الجنايات؟ أم هو يحب هذه الأرض وحدها بما فيها من حسن في منظر الزرع ولطف في الهواء وجلال في لألاء النجوم في الليالي الظلماء؟ ولكن أكان يستطيع أن يحب أرضا أخرى فيها من الجمال ما هو أبدع وأروع من جمال مصر؟ وخيل إليه أن هذه البلاد لو كانت صحراء جاهمة أو مناقع بلاقع لما كان لها عنده إلا ذلك الحب القوي العميق.
أم هو يحب هذا الخلق الذي يجاوره ويعامله من أمثال علية وسعيد أو تعويضة أو قوية ورحومة وأمثالهم ممن رأى في الحياة؟ ولكن ألم يكن إلى جانب كل هؤلاء قوم آخرون ممن ينكرهم وينكرونه ويسخط عليهم ويسخطون عليه؟ ألم يكن في جيرانه أو أهله أو هؤلاء الذين يراهم قومه من يخالفونه في الرأي والمشرب والذوق والعقيدة؟ أليس يرى كل يوم فيما حوله ما يملأ قلبه بالغضب والحنق أحيانا؟ أفلا يكون ذلك الحب الذي يحسه لبلاده نوعا من الأنانية يبعثه على أن يطلب في المشاع ما يريد أن يتمتع به هو من حرية وكمال ومجد؟ لقد كان كلما رأى عيبا في قومه أسف وحزن وود لو استطاع أن يصلحه، وكلما تأمل خيرا ود لو استطاع هذا الوطن أن يدركه ويجمعه إليه، أما يكون ذلك الحب نوعا آخر من الغرائز لم يتعمقه بعد العلماء، غريزة كامنة في الفرد يحس بها أنه قطعة من كل كما أنه يحس أن ساعده قطعة منه؟
ناپیژندل شوی مخ