وقال فؤاد لقوية بعد لحظة صمت: سأكون أحد الشهود في عقدكما، بارك الله لكما.
ومضى عنه الفتى شاكرا، وبقي هو حينا ينظر إلى نفسه كيف تبدلت! أكان هذا الذي شعر به نحو تعويضة من قبل أثرا من آثار الوهم أو الفراغ؟ أكان نتيجة لجهده المتصل وانطوائه على نفسه؟ أكان في ظلمة ثم خرج إلى النور منذ رأى علية؟
مهما يكن من أمره فقد أحس سعادتين: إحداهما كلما تذكر علية المنعمة الحسناء على شاطئ الإسكندرية، والأخرى كلما تذكر أن تعويضة سوف تسعد بعد غد في ليلة زفافها.
واجتمعت القرية تلك الليلة في الفضاء الفسيح يحف بهم النخيل من جانب وسفح الكوم الكفري من جانب، وكان القمر يزهر في سماء الخريف في وشي من سحب بيض تتهادى على رسلها، فتحجب نوره بين حين وحين، ووضعت ثلاثة من المصابيح في فوانيسها الزجاجية الكبيرة في وسط حلقة صاخبة من نساء ورجال وأطفال يتصايحون ويتنادون لكي يروا رقصة تعويضة في الصابية، وأخذت الحلقة تضرب بأكفها ودخلت تعويضة في وسط الحلقة تخطر في ثوبها الجديد.
وجلس فؤاد على كرسي فكان موضعه صدر الحلقة، وجلست مبروكة تحت قدميه عن يمينه، ووقف قوية إلى اليسار وبدأت تعويضة رقصتها وانطلق قوية منشدا:
صغير غادي في النوار
منور مثله وعوده زين
وكانت ضربات الأكف تساير وزن النشيد سريعة وثابة، وتعويضة لا تكاد تمس الأرض بأطراف قدميها تدور وتثب وتميل برأسها، وضفائرها الطويلة السوداء تضطرب على صدرها وكتفيها كأنها لفائف من حرير غزير.
وود فؤاد لو كانت علية وسعيد إلى جانبه في تلك الليلة يريان معه ما يرى ويشاركانه ما يتمتع به من سعادة، وكان يخيل إليه عند ذلك أن الحياة كلها تبتسم للحلقة المتواضعة السعيدة التي تزأط وتضطرب تحت عينيه، فلو كانت علية هناك لما ترددت في أن تصور لهؤلاء صورة تعرضها على أستاذها وأخيها لعلها تفوز برضائه عن مقدرتها، ولو كان سعيد هناك لأوحى إليه المنظر صورة عجيبة لا تخطر لأحد ببال، كان من الممكن أن يصور الراقصة البدوية أو السيد الجالس أو قوية المنشد أو المصابيح في وسط الحلقة، أو أن يصور شيئا غير هذا كله ليودع ما ثار في نفسه من أثر ذلك المنظر العجيب.
ولو كانت علية هناك لجلست معه في الحلقة تنظر إلى هؤلاء القرويين الذين يمرحون في أسمالهم، وتمد إليهم يدها من أفقها العالي ناظرة حولها تنتظر لفتات الثناء والشكر على تنازلها، ولما انفض السامر ذهب فؤاد مع قوية إلى داره التي اتخذها مسكنا في جانب من العزبة بدل الخيمة التي كان يقيم بها في جانب الكوم، وأخذ فؤاد معه هدايا كان أبوه قد أعدها له من ذبائح تنحر في الليلة التالية، ومن ثياب لتعويضة تضعها على كتفيها أو تلبسها في قدميها في ليلة زفافها المقبلة، ولم ينس الوالد أن يبعث إلى مبروكة ثوبا أسود فضفاضا وملاءة وطرحة ونعلا أصفر من جلد لين لامع.
ناپیژندل شوی مخ