5
كان سعيد مع فؤاد في أيام الدراسة الثانوية لا يكادان يفترقان، ولكنهما - على ما كان بينهما من ألفة - ضدان في الطباع، كان فؤاد وثابا على حين كان صاحبه هادئا، وكان يقبل على دروسه في شغف وتقديس حين كان سعيد يتلقاها فاترا كأنها قضاء لا بد من الخضوع له، فكان سعيد إذا ضاق بشيء من ألغاز الجبر أو الهندسة خف إليه فؤاد كأنه أستاذه يبصره بما غاب عنه ويعجب كيف خفي ذلك عليه، وكانا يختلفان في هيئتهما مثل اختلافهما في طباعهما، فقد كان فؤاد قصيرا لا يعبأ أن يكون أنيقا، وكان يحب اللعب والحركة، فإذا لم يجد كرة يلاعب أصحابه بها صنع كرة من جورب أو عمد إلى قطعة مستديرة من الحجر كأنها كرة، وأما سعيد فقد كان طويلا نحيفا يتأنق في ملبسه ولا يميل إلى شيء من العنف في حركة، ولكنه كان إذا وقع بصره على منظر جميل وقف أمامه يتأمله في خشوع كأنه يؤدي صلاة، وكان فؤاد يعابثه عند ذلك متهكما فلا يزيد سعيد على أن يقول له: ليتك ترى ما أراه.
فلما فرغ سعيد من دراسته الثانوية اتجه إلى الفن، فقضى عاما بمدرسة الفنون الجميلة العليا، ثم سافر إلى إيطاليا فقضى بها ثلاث سنوات عاكفا على دراسة الفنون في شغف حتى عاد منها في الشتاء السابق، ولم يكن فؤاد يعرف من أنبائه في تلك السنوات إلا قليلا مما يبلغه عنه من بعض أقربائه، فقد كان سعيد لا يطيق أن يستقر للكتابة، حتى كان أهله أحيانا يحسون عليه قلقا من انقطاع رسائله.
فلما استوى المجلس بهما قال فؤاد: لقد ردني صوتك من عالم بعيد إلى عالم آخر بعيد، كنت أضرب في خواطر هائمة على الأفق فأعدتني إلى أفق آخر غاب عني من سنين.
وأخذا يتذاكران أيامهما الأولى التي بدت لهما هادئة سعيدة إذ خلع عليها البعد غلالة حجبت همومها الصغيرة، واستمر الحديث بينهما متدفقا فيما قرب وما بعد حتى مالت الشمس إلى الغروب، فنظرا نحوها في صمت يرقبان قرصها الأحمر وهو يتطاول نحو البحر حتى انغمس فيه، فقال سعيد ضاحكا: ألا تسمع نشيش الماء؟
فأجابه فؤاد في ضحكة مثلها: إنه سؤالك القديم، وهو يذكرني بوقفاتنا على هذا الشاطئ منذ سنين، ولقد كنت منذ صباك فنانا، أرضيت عن حياتك يا سعيد؟
فقال سعيد هادئا: أظن ذلك.
ونظر فؤاد إلى وجهه الذي عرفه فوجده كما كان وديعا نبيلا، واستمر سعيد بعد لحظة قائلا: وأنت؟
فهز فؤاد رأسه قائلا: لست أدري، لقد طالما سألت نفسي هذا السؤال فلم أستطع جوابا.
فقال سعيد: هذا سؤال لم يخطر لي.
ناپیژندل شوی مخ