ولم يكد يتقدم في درسه الرابع حتى كانت بينه وبين صاحبنا قصة صرفت الغلام عن النحو صرفا. كان الشيخ يفسر قول تأبط شرا:
فأبت إلى فهم وما كدت آئبا
وكم مثلها فارقتها وهي تصفر
فلما وصل إلى قوله «تصفر» قال: إن العرب كانت إذا اشتدت على أحدهم أزمة أو محنة وضعوا أصابعهم في أفواههم ونفخوا فيها، فكان لها صفير يسمع.
قال الغلام للشيخ: وإذن فما مرجع الضمير في قوله : «وهي تصفر»، وفي قوله: «وكم مثلها فارقتها؟» قال الشيخ: مرجعه «فهم» أيها الغبي! قال الغلام: فإنه قد عاد إلى فهم والبيت لا يستقيم على هذا التفسير. قال الشيخ: فإنك وقح وقد كان يكفي أن تكون غبيا. قال الغلام: ولكن هذا لا يدل على مرجع الضمير. فسكت الشيخ لحظة ثم قال: «انصرفوا، فلن أستطيع أن أقرأ وفيكم هذا الوقح.»
ونهض الشيخ، وقام الغلام، وقد كاد الطلاب يبطشون به لولا أن حماه زملاؤه وكانوا من أهل الصعيد، حموه بأن أحاطوا به وأشهروا نعالهم فتفرق الناس، وأي الأزهريين لم يكن يفرق في ذلك الوقت من نعال أهل الصعيد!
ولم يعد الغلام إلى درس النحو، بل لم يحضر الغلام بعد ذلك درسا في النحو، بل ذهب من غده إلى درس كان يلقيه أستاذ معروف من أهل الشرقية، وكان يقرأ «شرح الأشموني»، ولكنه لم يتم الاستماع للدرس، مضى الشيخ يقرأ ويفسر، وسأله الغلام في بعض الشيء، فرد عليه الشيخ بما لم يقنعه، فأعاد السؤال، فغضب الشيخ وأمره بالانصراف. فتوسط بعض أصدقائه عند الشيخ يستعطفونه، فازداد غضب الشيخ وأبى أن يمضي في الدرس حتى يقوم هذا الغلام ومعه أصدقاؤه، ولم يكن لهم بد من أن ينصرفوا؛ فقد أشهرت عليهم نعال الشرقية، ولم تكن نعال الشرقية بأقل خطرا من نعال الصعيد.
وذهب الغلام من غده مع أصحابه إلى حلقة أخرى كان يقرأ فيها «شرح الأشموني»، يقرؤه أستاذ مشهور من أساتذة الشرقية أيضا. فوقف الغلام على الحلقة لحظة لا تتجاوز الدقائق الخمس، ولكنه سمع فيها هذه اللازمة الغريبة يعيدها الشيخ كلما انتقل من جملة إلى جملة: «اخص على بلدي.» فضحك الغلام وضحك أصدقاؤه وانصرفوا، وأزمع الغلام وصديق له أن يدرسا النحو مستقلين، وأن يدرساه في مصادره الأولى، فقرأا كتاب «المفصل» للزمخشري، ثم «كتاب سيبويه»، ولكن هذه قصة أخرى.
ولم يكن حظه في المنطق خيرا من حظه في الفقه والنحو. لقد أحب المنطق حبا شديدا حين كان يسمع شرح السيد على إيساغوجي من أستاذه ذاك الشاب في العام الماضي . فأما في هذا العام فقد جلس لأمثاله من أوساط الطلاب علم من أعلام الأزهر الشريف، وإمام من أئمة المنطق والفلسفة فيه. وكان معروفا بين كبار الطلاب بهذا الذكاء الظاهر الذي يخدع ولا يغني شيئا. وكان معروفا بهذه الفصاحة التي تبهر الأذن ولا تبلغ العقل. وكان يؤثر عنه أنه كان يقول: «مما من الله علي به أني أستطيع أن أتكلم ساعتين فلا يفهم أحد عني شيئا ولا أفهم أنا عن نفسي شيئا.» كان يرى ذلك مزية وفخرا. ولكن لم يكن بد للطالب الذي يقدر نفسه من أن يجلس إليه ويسمع منه. وقد جلس للطلاب بعد صلاة المغرب يقرأ لهم «شرح الخبيصي على تهذيب المنطق»، وذهب إليه صاحبنا وسمع منه درسا ودرسا، وكانت حلقته عظيمة حقا تكتظ بها القبة في جامع محمد بك. وكان الغلام يسبق صلاة المغرب فيجلس في أقرب مكان من كرسي الأستاذ، وكان الأستاذ جهوري الصوت قد احتفظ بلهجة الصعيد كاملة. وكان شديد النشاط كثير الحركة. وكان إذا سأله طالب رد عليه ساخرا منه، فإن ألح الطالب في السؤال ثار هو به وجعل يقول له في حدة: «اسكت يا خاسر، اسكت يا خنزير!» وكان يفخم الخاء في الكلمتين إلى أقصى ما يستطيع فيه أن يبلغ من التفخيم.
وقد استقام للشيخ وللطلاب أمرهم حتى أتمموا قسم التصورات، فلما بلغوا في كتابهم المقصد الثاني في التصديقات لقي الغلام من نفسه ومن شيخه بلاء عظيما، فاضطر إلى أن يختار له من الغد مكانا بعيدا عن الشيخ، وما زال يتأخر يوما بعد يوم في مجلسه حتى بلغ باب القبة، فخرج منه ذات ليلة، ولم يدخله بعد ذلك.
ناپیژندل شوی مخ