وكان هذا الإفطار يختلف بين يوم ويوم لا في مادته، فقد كان الفول يغرقه السمن أو يغرقه الزيت، ولكن فيما يحيط به من الظروف والأطوار؛ فقد كان هذا الإفطار صامتا يوما وناطقا مصطخبا يوما آخر، صامتا حين يخلو الصبي إلى أخيه فيفطران معا إفطارا سريعا مظلما قاتما لا يكاد أحدهما ينطق فيه بشيء، وإنما هي جمل متقطعة قصار يردها الصبي على الشيخ الفتى، وكانوا ثلاثة حينا وأربعة حينا، وربما بلغوا خمسة في بعض الأيام، ولكن لخامسهم هذا شأنا آخر، فالخير ألا يذكر الآن.
هنالك كان هؤلاء الشباب من طلاب العلم ينفقون ساعة حلوة من ساعات حياتهم، وكان الصبي يهمل إهمالا تاما لا تلقى إليه جملة، ولا يحتاج إلى أن يرجع على أحد جوابا.
وكان ذلك أحب إليه وآثر عنده؛ فقد كان يروقه أن يسمع، وما أكثر ما كان يسمع! وما أغرب ما كان يسمع! وما أشد اختلاف ألوان الأحاديث التي كان يسمعها حول هذه المائدة المستديرة المنخفضة التي كانوا يسمونها «الطبلية» والتي كان يجلس الطاعمون من حولها على الأرض وقد وضع في وسطها طبق عظيم ملئ بالفول والسمن أو الزيت، وإلى جانبه إناء عظيم ملئ بألوان المخلل الغارقة في ماء يعب فيه هؤلاء الشباب قبل أن يأخذوا في طعامهم، يبدأ أحدهم، ثم يدار الإناء على سائرهم، ولكنه لا يعرض على الصبي. حتى إذا أخذوا حظهم من هذا الماء الملح الحاد الذي كان يحرش المعدة فيما يقولون مخلصين، أقبلوا على طعامهم. وقد ألقيت على المائدة جماعات من الأرغفة، منها ما يشترى ومنها ما أخذ جراية من الأزهر، والشباب يتنافسون: أيهم يقهر أصحابه في الأكل؟ يقهرهم في عدد ما يلتهم من الأرغفة، ويقهرهم في مقدار اللقمة التي يقتطعها، ويقهرهم في مقدار ما يغترف فيها من الفول وما يبلها به من السمن أو الزيت، ويقهرهم فيما يستعين به على هذا كله من اللفت أو الفلفل أو الخيار.
وهم يتنافسون ويزدحمون في أصوات مرتفعة، وضحكات تملأ الغرفة، وتخترق النافذة عن شمال فتتردد في الحارة من ورائها، وتخترق الباب عن يمين فتتردد في «الربع»، وتهبط إلى الطبقة السفلى حيث نساء العمال يختصمن أو يتناجين أو يتناغين، فتنقطع لهذه الضحكات خصومتهن ومناجاتهن ومناغاتهن، وإذا هن قد فرغن لهذه الأصوات المرتفعة وهذه الضحكات المضطربة التي يحملها إليهن الهواء، كأنما يجدن في الاستماع لها والاستمتاع بها لذة لا تعدلها إلا اللذة التي يجدها هؤلاء الشباب فيما يلتهمون ويلتقمون من الطعام.
والصبي جالس بينهم قد أطرق إلى الأرض، وحنى ظهره حتى كأنه القوس، ويده تذهب وتجيء في أناة وخوف واستحياء بين هذا الرغيف قد ألقي أمامه على المائدة، وهذا الطبق قد قام بعيدا عنه في وسط المائدة، ويده تصطدم بهذه الأيدي الكثيرة المسرعة التي تهوي لترتفع ، وترتفع لتهوي وتنزح الطبق في أثناء ذلك نزحا، والصبي معجب بذلك منكر له، لا يكاد يلائم في نفسه بين هذا التهالك على الفول والمخلل، وذلك التهالك على العلم والدرس وما كانت تعرف به هذه الجماعة من النجابة والنشاط وحدة الذكاء.
ولم يكن هذا الإفطار يستغرق من هؤلاء الشباب وقتا طويلا، وإنما هي لحظات لا تتجاوز ربع الساعة وقد فرغ ما كان في الطبق، ونظفت المائدة إلا من فتات ضئيل، ومن نصف الرغيف الذي كان قد ألقي أمام الصبي فلم يستطع أو لم يرد أن يتجاوز نصفه. وما هي إلا لحظة حتى ترتفع المائدة ويذهب بها ذاهب إلى خارج الغرفة فينقيها مما كان عليها، ثم يعود بها إلى مكانها نظيفة ملساء إلا مما كان قد تقاطر عليها من السمن أو ماء المخلل. وقد ذهب أحد هؤلاء الشبان فاستخرج مقدارا من الفحم؛ فحم الخشب، وأعد أداة الشاي، هذه الأداة التي يصطنعها الفرس والروس، فأوقد فيها النار بعد أن ملأها بالماء، وعاد بها وقد صفت جذوتها، فوضعها من المائدة مكان الطبق، وصف على حافة المائدة أكواب الشاي، وأخذ مجلسه ينتظر أن يغلي الماء، وأخذ الشبان يتحدثون حديثا هادئا فاترا يضطرهم إلى هدوئه وفتوره اشتغال بطونهم بما ألقوا فيها من الجامد والسائل، ومن البارد والحار، ولكن ماذا؟ لقد خفتت الأصوات ثم سكتت، ثم ملأ الغرفة صمت رهيب، ثم تردد فيها صوت ضئيل جدا، نحيل جدا، متقطع أول الأمر، متصل بعد ذلك.
وإذا هؤلاء الشبان قد تحركوا حركة الطرب، ثم انفتحت أفواههم في وقت واحد عن كلمة واحدة يقولونها في صوت هادئ متصل مستقر وهي «الله» يمدون بها أصواتهم مدا، كأنما أشاعت الطرب في نفوسهم موسيقى حلوة تأتيهم من بعيد، ولا غرابة في ذلك؛ فقد سمعوا أزيز الماء وهو يدور من حول هذا الموقد الذي تضطرم فيه تلك الجذوة الهادئة الصافية، وقد فرغ لأداة الشاي صاحب الشاي، فجعل يتبعها بقلبه وعينه وأذنه، حتى إذا استحال أزيز الماء غليانا أخذ هو إبريقا من الخزف فقربه من هذه الأداة وأدار مفتاحها في رفق، فجرى في الإبريق بعض هذا الماء الذي يغلي ويضطرب، ثم أدار المفتاح فانقطع جريان الماء، ثم رد على الإبريق غطاءه، ثم هزه هزا رفيقا ليبلغ ما فيه من الماء السخن أجزاءه كلها، ثم قام فألقى ما في الإبريق بعد تدفئته؛ فما ينبغي أن يجد الشاي برد الخزف أو برد المعدن لأن ذلك يفسده، ثم انتظر بهذا الشاي ثواني، ثم صب عليه الماء في رفق دون أن يملأ الإبريق إلى غايته، ثم انتظر به قليلا، ثم عمد إلى علبة الشاي الأحمر فأخذ منه مقدارا ووضعه في الإبريق، ثم صب الماء في الإبريق حتى يمتلئ، ثم رفع الإبريق في تلطف ورفق فوضعه على النار ثواني، ثم حطه عنها، ثم أهاب بأصحابه أن قدموا أكوابكم.
كان ذلك يجري والقوم سكوت، ينظرون ويتبعون حركات صاحبهم مراقبين لها حراصا على ألا ينحرف في بعضها عن الجادة. فإذا ملئت الأكواب وأديرت فيها الملاعق الصغار، فسمع لها صوت منسجم لا يخلو من جمال حسن الموقع في الأذن يأتي من هذه المداعبة الخفيفة الهادئة بين المعدن والزجاج، رفع القوم أكوابهم إلى أفواههم، فجروا الشاي منها بشفاههم جرا طويلا يسمع له صوت منكر يناقض صوت الملاعق حين كانت تداعب الأكواب. ومضوا في شربهم لا يكادون ينطقون إلا بهذه الجملة التي لم تكن تتغير، ولم يكن بد من أن ينطق أحدهم بها ويقره عليها الآخرون: «هذا هو الذي سيطفئ نار الفول.» فإذا فرغوا من هذه الدورة الأولى ملئت لهم الأكواب مرة أخرى، وقد أعيد إلى أداة الشاي ما فقدت من ماء، ولكن القوم ينصرفون الآن إلى شايهم عن هذا الماء المسكين الذي ترسل النار عليه حرارتها فيئن ثم يتغنى شاكيا، ثم يجهش بالغليان باكيا. ولكن القوم لا يحفلون به ولا يطربون لغنائه ولا لبكائه، قد شغلوا عنه بالشاي وبدورته الثانية خاصة؛ فقد كانت الدورة الأولى مطفئة لنار الفول، فأما الدورة الثانية فقد جعلت تخلص لهم ولأعصابهم، وجعلوا يجدون لها بعض اللذة في أفواههم وحلوقهم ورءوسهم أيضا. حتى إذا فرغوا من هذه الدورة ثابوا إلى عقولهم أو ثابت عقولهم إليهم، فهذه ألسنتهم تتحرك، وهذه شفاههم تبتسم وهذه أصواتهم ترتفع، ولكنهم لا يتحدثون الآن عن طعام ولا عن شراب، لقد نسوا الطعام والشراب وذكروا أنفسهم، لقد فرغوا من بطونهم والتفتوا إلى عقولهم، فهم يستعيدون ما سمعوا من الشيخ في درس الصبح، وهم يسخرون من هذا مرة ومن ذاك أخرى، وهم يعيدون اعتراض أحدهم على هذا الشيخ أو ذاك، أو اعتراض غيرهم على هذا الشيخ أو ذاك، وهم يجادلون في هذا الاعتراض، يراه بعضهم قويا مفحما، ويراه بعضهم سخيفا لا يعني شيئا. وقد أخذ أحدهم مكان الشيخ المقرر، وأخذ أحدهم مكان الطالب المعترض، وأقام سائرهم حكما في هذه المناظرة، وربما تدخل الحكم في المناظرة بين حين وحين يرد أحد المتناظرين إلى القصد إن جار عنه، أو يؤيد أحد المتناظرين بحجة قد أهملها أو دليل قد ند عنه، وصاحب الشاي مشترك في هذا كله، ولكنه في الوقت نفسه ملتفت إلى الشاي لا يهمله ولا ينساه؛ فقد أضاف إلى الإبريق شايا على شاي وماء على ماء، وقد فرغت الأكواب ثم امتلأت؛ فالشاي لا يتم إلا بالدورة الثالثة؛ لأن نصاب الشاي ثلاثة أقداح لا ينبغي أن ينقص، ولا بأس بأن يزيد.
والصبي مطرق منحن في مكانه، يقدم له نصيبه من الشاي في صمت، فيشربه مترفقا في صمت أيضا، وهو يلحظ ما يجري حوله، ويسمع ما يقال حوله، فيفهم منه قليلا ويعجزه أكثره عن الفهم، ولكنه يعجب بما فهم وبما لم يفهم ويسأل نفسه متحرقا متى يستطيع أن يقول كما يقول هؤلاء الشباب، وأن يجادل كما يجادلون؟
وقد مضت ساعة أو نحو ساعة، واستوفى القوم نصيبهم من الشاي، ولكن المائدة ستبقى حيث هي، وستبقى أداة الشاي في وسطها والأكواب مصطفة على حافتها؛ فقد قربت الظهر ولا بد من أن يتفرق القوم ليلقي كل منهم نظرة سريعة على درس الظهر قبل أن يذهبوا لاستماعه. وهم قد أعدوه معا منذ أمس، ولكن لا بأس من المراجعة السريعة، ومن الوقوف عند عند هذه القولة أو تلك، فهي لا تخلو من غموض أو التواء، ومع ذلك فالمتن واضح والشرح جلي، ولكن «البنان» يصعب السهل ويعقد المنحل، والسيد الجرجاني نافذة البصيرة يستخرج من الأشياء الواضحة أسرارا غامضة، فأما عبد الحكيم فيفهم حينا وتلتوي عليه الأمور أحيانا، فأما المقرر فجاهل لا يدري ما يقول. ولم يبق على الظهر إلا دقائق، فلنسرع إذن إلى الأزهر، فسيدعو المؤذنون إلى الصلاة، وستقام الصلاة، ونحن في الطريق، حتى إذا بلغنا الأزهر كان المصلون قد فرغوا من صلاتهم وأخذ الطلاب يتحلقون حول شيوخهم، ولا بأس إن فاتتنا صلاة الجماعة فسنقيم الصلاة بعد الدرس، وسنقيمها جماعة أيضا. والخير ألا تؤدى الصلاة قبل الدرس؛ فإن النفس تشغل عن العبادة بهذا الدرس وما فيه من صعوبة ومن مشكلات تحتاج إلى الحل، فإذا ألقي الدرس وسمعناه وجادلنا فيه وشفينا نفوسنا من مشكلاته ومعضلاته، فرغنا للصلاة فأديناها وقد خلصت لها النفوس والقلوب.
ناپیژندل شوی مخ