وما أكثر ما كان يسمع للقارئة وقد حمل أمينة بين ذراعيه ليتيح لزوجه أن تفرغ لما كان ينبغي أن تفرغ له من شئون البيت!
وما أكثر ما كان يملي فصول هذه الرسالة وصبيته بين ذراعيه يمشي بها في غرفته الضيقة ممليا وقارئته تسمع منه وتكتب عنه! وربما طلبت إليه أن يريح نفسه من الإملاء ويريحها من الكتابة دقائق، وأخذت منه الصبية فحملتها ومشت بها في الغرفة وغنت لها بعض ما يغني للأطفال، وأتاحت له بذلك أن يجلس ويستريح، وزوجه في أثناء هذا كله في مطبخها مقبلة على تهيئة الغداء أو العشاء.
وفي ذات يوم يقبل الرفاق فينبئونه بأن سعدا رحمه الله وأصحابه سيصلون إلى باريس، وأنهم يتهيئون لاستقبالهم، ويطلبون إليه أن يشاركهم في ذلك فيعتذر؛ لأنه لا يحسن من هذه الأمور شيئا.
ولكنه ينتظر حتى إذا استقر الوفد في باريس ذهب ذات ضحى إلى حيث كان أعضاؤه يقيمون، فلقي سعدا رحمه الله بعد أن لقي رفاقه، وفيهم أستاذه الرفيق به العطوف عليه أحمد لطفي السيد.
وفيهم صديقه المشجع له الذي طالما شمله بالعناية والرعاية حين كان طالبا في الجامعة، وكاتبا في الجريدة، ثم شمله بالعناية والرعاية حين كان عضوا في البعثة الجامعية بباريس، وهو عبد العزيز فهمي رحمه الله.
وفيهم غير هذين الصديقين الكريمين آخرون كان يعرفهم بأسمائهم، ثم اتصلت المودة بينه وبينهم بعد ذلك، كما اتصلت الخصومة أيضا بينهم وبينه بعد ذلك.
لقي هؤلاء جميعا ومعه زوجه، ثم أذن له في لقاء سعد، وكان لسعد عنده دين منعه الحياء من أدائه، حين كان طالبا في الجامعة وأتيح له أن يؤديه بعد أن كاد يتم دراسته في باريس.
الفصل الثامن عشر
أطول الناس لسانا!
وكان دين سعد عند صاحبنا قديما يرجع تاريخه إلى العام الذي قدم فيه رسالته عن أبي العلاء إلى الجامعة، وظفر بعد مناقشتها بدرجة الدكتوراه، وكثر حديث الصحف والناس عن هذه الرسالة وصاحبها. وفي تلك الأيام قدم عضو من أعضاء الجمعية التشريعية اقتراحا يطلب فيه أن تقطع الحكومة معونتها عن الجامعة؛ لأنها خرجت ملحدا هو صاحب رسالة «ذكرى أبي العلاء».
ناپیژندل شوی مخ