ولكنه مصر على ما أراد، فيصحبه صديقه الدرعمي ذات مساء إلى حيث يضعه في القطار، ويوصي به بعض من فيه، وينصرف عنه ويدعه وحيدا، وينفق الفتى ليلا في القطار، لا يدري أقصر أم طال؛ لأنه لم يفكر في أثنائه إلا في هذا اللقاء الذي سيكون حين يرتفع الضحى ويبلغ القطار غايته، وإذا الصوت العذب يدعو صاحبنا في رفق وعطف وحنان، ويشعر بأنه منذ اليوم سيخلق خلقا جديدا.
الفصل الخامس عشر
المرأة التي أبصرت بعينيها!
واستأنف الفتى حياة جديدة، بأوسع معاني هذه الكلمة وأعمقها! كان يرى نفسه في كلمة أبي العلاء حين قال: إنه إنسي الولادة، وحشي الغريزة.
كان يرى نفسه إنسانا من الناس ولد كما يولدون، وعاش كما يعيشون، مقسم الوقت والنشاط فيما يقسمون فيه وقتهم ونشاطهم. ولكنه لم يكن يأنس إلى أحد، ولم يكن يطمئن إلى شيء، قد ضرب بينه وبين الناس والأشياء حجاب ظاهره الرضا والأمن، وباطنه من قبله السخط والخوف والقلق واضطراب النفس، في صحراء موحشة لا تحدها الحدود، ولا تقوم فيها الأعلام، ولا يتبين فيها طريقه التي يمكن أن يسلكها، وغايته التي يمكن أن ينتهي إليها.
ولكنه ينظر ذات يوم فإذا هو قد أخذ يتخفف قليلا قليلا من غريزته تلك الوحشية القلقة، ويحس شيئا من الأنس الرفيق إلى بعض الناس، ثم يحس هذا الأنس يقوى في نفسه من يوم إلى يوم، وإذا هو لا يطمئن إلى ذلك الشخص الحبيب إليه الكريم عليه، وإنما يطمئن إلى غيره من الناس أيضا.
كان يرى نفسه غريبا أينما كان وحيثما حل، لا يكاد يفرق في ذلك بين وطنه الذي نشأ فيه، وبين غيره من الأوطان الأجنبية التي كان يلم بها؛ لأن ذلك الحجاب الصفيق البغيض الذي ضرب بينه وبين الدنيا منذ أول الصبا كان محيطا به، يأخذه من جميع أقطاره في كل مكان، فكان الناس بالقياس إليه هم الناس الذين يسمع أصواتهم، ويحس بعض حركاتهم، ولكنه لا يراهم ولا ينفذ إلى ما وراء هذه الأصوات التي كان يسمعها والحركات التي كان يحسها.
كان غريبا في وطنه، وكان غريبا في فرنسا، وكان يرى أن ما يصل إليه من حياة الناس ليس إلا ظواهر لا تكاد تغني عنه شيئا.
وكانت الطبيعة بالقياس إليه كلمة يسمعها ولا يعقلها، ولا يحقق من أمرها شيئا، كأنما أغلق من دونها بالقياس إليه باب لا سبيل له إلى النفوذ منه. كان ينكر الناس وينكر الأشياء، وكان كثيرا ما ينكر نفسه ويشك في وجوده!
كانت حياته شيئا ضئيلا نحيلا رقيقا لا يكاد يبلغ نفسه. وكان ربما تساءل بين حين وحين عن هذا الشخص الذي كان يحسه مفكرا مضطربا في ضروب من النشاط ما هو؟ وما عسى أن يكون؟ وكان ذلك ربما أذهله عن نفسه وقتا يقصر أو يطول، فإذا ثاب إليها أو ثابت إليه أشفق من هذا الذهول وظن بعقله الظنون، وتساءل: أيجد الناس من الذهول عن أنفسهم مثل ما يجد، ويحسون من إنكار أنفسهم مثل ما يحس؟!
ناپیژندل شوی مخ