وتلعثمت وأنا أجيب أبي بأسى قانط مرير: لا، لا يا أبي فإني سأنتظر مع أمي، وأنتظر المودعين. وابتسم أبي ابتسامة وجدتني أمامها عاريا من سري الكبير، لقد كان الرجل يعرف كل شيء، قال لي ذلك، قالها دون أن ينطق كلمة واحدة، قالها في ابتسامته تلك التي ترقرقت على محياه، وخرج.
وخلوت أنا إلى حجرتي، لم أنتظر المودعين، ولم أجلس إلى أمي، وإنما لجأت إلى الكذبة التي يستعملها الجميع إذا شاءوا أن يخلوا إلى أنفسهم، نعم ادعيت مرضا وصداعا، وخلوت إلى حجرتي، أستعيد الأيام، أيام الفناء والكرة والحبل والطريق واللعثمة والحمرة، والأحاديث، ذهب هذا جميعه، هذه الخائنة، ولكن ما ذنبها؟! وهل تملك من أمر نفسها شيئا؟ بل هل أملك أنا من أمر نفسي شيئا؟! ها أنا ذا مسوق إلى السفر، مرغم على السكوت حتى لا أستطيع أن أنبث بخالجة نفسي ورغبتي، ما ذنبها؟ إنما يحكم عليها من يحكم علي، آه من الآباء! فكرت ألا أسافر، ولكن ماذا أقول، وكيف أعصي أبي، لا إني سأسافر لا لأني خائف من أبي، ولكنني سأسافر لأني زعلان من أبي، ولماذا أزعل منه؟! هل أخبرته بشيء؟ لقد كان يعلم، وماذا كنت أنتظر؟ أن يأتي هو إلي ويقول لي سأخطب لك هناء، وما له! ولماذا لا يفعل؟ نعم سأسافر لأنني زعلان.
وسافرت ومضت السنون بي في أوروبا، وخطابات أشرف توافيني بأخبار هناء فتحيي في القلب حبا كان خليقا أن يضعف.
رأيت المرأة في الغرب، رأيتها في أوضح صورها بشاعة، وكانت رؤيتي لها تعيد حبي لهناء إلى شبابه الأول، أرى العيون الفاجرة، فأذكر عيونها المسبلة! وأرى الوجوه البريئة فأذكر حمرة وجهها! وأرى الأجسام الفائرة فأذكر جسمها الذي لا يبعث إلى ذهنك إلا فكرة الورود تتفتح عنها أكمامها في حياء وفي زهو وفي كبر، أرى النسوة عاريات وإن سترت أجسامهن الملابس، فأذكر ذراعيها العاريتين يسترهما جلال الحياء فيها وبراءة الأجواء التي تشيع من حولها. ورأيت الغرب فعرفت المرأة فازداد حبي لحبي الطفل الذي تركته في مصر بين أيد غريبة عني وعنها وعن طفولتنا وصبانا ومطالع شبابنا.
كنت قد أوشكت أن أنتهي من دراستي حين جاءني خطاب من أشرف يحمل إلي نبأ عجيبا، لقد مات زوج هناء، مات، يا لفرحتي! ودوى عن الفرحة ضمير بريء يستجدي أن يفرح للموت، عدت إلى خطاب صديقي، يا له من مقصر! ألا يذكرني إن كانت هناء تعيسة بموته وما مدى تعاستها، ولم يذكر الخطاب أين تسكن، أوحدها أو مع والديها؟
ولم يحن موعد عودتي إلى مصر إلا وأنا أعلم كل شيء عن هناء؛ أين تسكن، ومتى تخرج، ومقدار حزنها، ومدى تمتعها بالحياة.
عرفت كل شيء.
ووصلت إلى مصر، فكان أول ما عملت أن اتصلت بها بالتليفون. - أتراك تذكرينني؟ - أعرف الصوت ولا أصدق أذني، أتراك هو؟ - أنا هو. - أنت ... - أنا ... عرفتني؟ - وهل تتصور أن أنساك؟ وهل تتصور أنني نسيتك؟ - أكلمك لأعزيك. - شكرا، متى أراك؟ - وتلعثمت وأنا أقول: ترينني؟! - طبعا، ما لك هكذا وكأنك لم تسافر إلى الخارج. لا تزال اللعثمة تعتريك! - متى أراك؟ - كما تحب! - الآن؟ - الآن.
واتفقنا على الموعد وذهبت إليه، غير أن في الصوت جرأة، وفي الحديث امرأة وفي اللهجة إقبال، ماذا ترى حدث؟ أن تدعوني هي إلى اللقاء وقد كانت لا تلتفت إلي وأنا أحدثها في الطريق، هذا الصوت، وهذه اللهجة ليست غريبة علي، إنني أعرفها، سمعتها ، ولكن بلغة غير اللغة، نعم لقد كن هكذا يحادثنني في الخارج، ترى ألم تصبح هناء ... هناء.
وأقبلت في الموعد، امرأة، ربتة العود عالمة العينين خبيرة النظرات، متجملة الوجه، متأنقة الملبس، وجلست.
ناپیژندل شوی مخ