ولكن فئة بعينها كانت مقبلة والفرح يغمر نفسها لا تجد بينها الحزين أو الآسف، الأمل يشتعل في عينها اشتعالا ولو انكشفت نفوسهم لأخذ عينيك منها شعاع حافل بالنور يرمي إلى المستقبل أضواءه، يود لو أن السنين تقاصرت أو انمحت فيقرب البعيد ويدنو القصي، كانت هذه الفئة هي الناجحة في شهادة البكالوريا والمقبلة على الجامعة أول إقبالها على الجامعة ذلك البناء الذي طالما مروا به فكان حافزهم إلى النجاح، وباعثهم إلى روح المذاكرة وأملهم الواضح القائم أمامهم لا يحجبه غيب ولا تستريبه الظنون.
أقبلت تلك الفئة لم يتأخر من أفرادها فرد وتجمعت زرافاتهم، كل أمام الكلية التي علق بها آماله وآمال أبويه معه.
وكانت كلية الحقوق مشجبا لأكثر الآمال؛ فالواقفون أمامها من حاملي شهادة الدراسة الثانوية كثيرون يخطئهم الإحصاء وتختلف في تعدادهم الآراء، حتى يخرج مسجل الكلية بالرأي الفصل والعدد الذي لا يقبل جدالا، وإن كان يقبل الزيادة على مر الأيام. ويذهب الطلبة إلى مدرجهم وتنتظم الدراسة وتنتهي الحصة، آسف، أقصد المحاضرة الأولى، ويسود الهرج والمرج ويتقرب الطلبة إلى الطالبات، وتعرض الطالبات عن الطلبة، وتأتي المحاضرة الثانية، وتتابع المحاضرات، ويمر اليوم الدراسي ويكاد اليوم الأول من الكلية يفوت دون أن يحدث فيه جديد، ونكاد لا نخرج بهذه القصة التي تعانيها الآن لولا أن شاء الله فيلتقي خارج المدرج طالب وطالبة ثم يشاء سبحانه أن تكون القصة.
ووقفا على محطة الترام فرحين أنهما زملاء، ولم يكونا من قبل زملاء ولم تجمعهما في يوم مدرسة واليوم جمعتهما غرفة مهما تكن كبيرة متسعة إلا أنها على أية حال غرفة، طال انتظارهما للترام، فحدثها فأجابت، فسخر من الأساتذة فضحكت، فانتقد إلقاءهم فأعجبت! فمدح بعضهم فوافقت، فسألها اسمها فقالت، فسألته اسمه وقال، فأصبح حمدي وهند صديقين منذ اليوم، وكان المنزلان متجاورين فالترام يحملهما في الصباح ويعود بهما في منتصف النهار أو أول الليل بعد الدراسة المسائية فهما على أية حال، متلازمان في الذهاب والعودة.
كانت صداقة، حتى كان يوم اعترض حمدي بعض الطلبة وسألوه أن ينتخب فلانا من الناس ليمثل السنة الأولى في مجلس الجامعة فقال: ولكني لا أعرفه. - ولماذا تعرفه؟ - لأنتخبه! - وهل لا بد أن تعرفه حتى تنتخبه؟ - إنني لا أفصل حلتي عند ترزي إلا بعد أن أعرف مهارته فكيف أضع ثقتي في شخص لا أعرفه؟! - يا أخي ما شأنك، سنحضر لك من حزبه جنيها، موافق ؟ - لولا أنكم زملاء لعرفت كيف أجيب، أما الآن فيكفي أن تعرفوا أنني لن أكلمكم بعد اليوم. - يا أخي اسمع الكلام، ماذا تظن أنك ستفعل بصوتك الذي ستعطيه. - أنا أعلم أنه لن يفعل شيئا للمرشح ولكنني أعرف أنني يجب أن أحترمه، وعلى كل حال لا تحدثوني في هذا الشأن مرة أخرى، بل ولا تحدثوني في أي شأن.
كان هذا النقاش على محطة الترام وكان حمدي ينتظر هندا، وكانت قد جاءت ولكنها لم تشأ أن تشعره بوجودها، حتى ينتهي من حديثه مع هؤلاء، ثم مرت الأيام فأكملت سنتين وحمدي كما هو يحترم نفسه، يعلو عن الصغار، يقتنع بالرأي فيدافع عنه أقوى ما يكون الدفاع، ويعارض رأيا فيحاربه أقسى ما تكون الحرب!
لم يكن حمدي جميلا، بل لعله كان أقرب إلى الدمامة، ولم يكن غنيا، بل هو إلى الفقر أقرب، فكانت هند لا تفكر فيه إلا قدر ما يفكر صديق في صديق آخر يعجب به ويشتد إعجابه على مر الأيام.
وفي يوم وجدت هند حمدي في حال من الاضطراب الشديد، فسألته، فلم يملك نفسه أن يجيب في حدة: آسف يا هند، لن أذهب معك اليوم إلى المنزل. - خير إن شاء الله يا حمدي؟! - كنت أود أن يكون خيرا، ولكن للأسف إنه الشر الذي ليس بعده شر. - الله، ماذا جرى يا حمدي، قل بالله ولا تخف. - لقد سرق فراش امتحانا من الامتحانات وباعه إلي. - وما يغضبك في هذا؟ - ما يغضبني في هذا يا هند؟! أنت التي تسألين؟! فراش يسرق سرا هو أقدس أسرار الكلية ويبيعه إلى التلاميذ بالثمن الفادح فينجح الغني ويسقط الفقير. - فلماذا اشتريته يا أخي؟ - حتى يكون في يدي الدليل. - أي دليل؟ - الدليل الذي أقدمه للأستاذ حتى يعرف أن الامتحان الذي وضعه قد سرق. - أتنوي أن تخبر الأستاذ؟ - الآن الساعة، في هذه اللحظة. - هل أنت مجنون؟ طريق النجاح أمامك وتقفله! - النجاح، أهذا نجاح؟ ذلك هو الفشل، النجاح أن نسعى ثم نصل، إن النجاح في العلم أن نحصله ونفهمه ونعبر عنه، أما أن نشتري الشهادة بالمال والمستقبل بالخديعة والغش، فذلك هو الفشل وذلك هو الزور الذي يلازمنا طول الحياة، إننا في الجامعة، والعلم الذي نحصله اليوم هو أداتنا في الغد فما نقول للمستحيل إذا وقفنا أمامه جهلاء، ومعنا الشهادة أغبياء ونحمل ألقابا؟ لا يا هند، أنا لا أنتظر منك هذا السؤال!
لم تستطع دمامة حمدي ولا فقره أن يقفا هذه المرة دون حبها لحمدي فأحبته، أحبت فيه مثلا من الرجولة لم تشهده قبل اليوم، وكان حبا! ومرت الأيام وتخرج حمدي، وتخرجت هند، وعند باب الجامعة التفتت هند إلى حمدي وقالت: إلى أين؟ - إلى أين أنت؟ - إلى الحياة. - وحيدة؟! - وحيدة. - الطريق طويل. - لا بد أن أقطعه. - قدماك لا تقويان. - ليس لي غيرهما. - وذراعك لا يطيل. - لا بد أن يعمل. - ألا تريدين ساعدا؟ - لا بد أن أعرفه. - ألا تعرفينني؟ - أعرفك. - أترضين بي عونا على الحياة، وصديقا إلى الأبد؟ - إنك صديقي. - أترضينني زوجا؟ - أرضاك ولكن ... - ولكن؟! - والداي. - اسألهما. - سيوافقان. - الحمد لله. - وتزوجا.
ومرت الأيام وضربت الأيدي الفتية في لجج الحياة وتغلبت عليها حينا وغلبت أحيانا، ثم أصبح للزوجين بنون، فانقطعت الأم عن المكتب ومكثت في البيت وواصل الأب جهاده، ولكن الزبائن قلة والأطفال لا يرحمون، والأصدقاء يشيرون على حمدي أن يستعين بسمسار ولكنه يأبى في ترفع ويشمخ في عنف، وهند ترى هذا فتزداد به إعجابا يمازجه الغيظ المكتوم، حتى إذا مرض طفل لهما ولم يجدا ثمنا للدواء لجأ حمدي إلى سمسار القضايا، يشاطره - وهو الجاهل - جهده وبحثه، وأحست هند بعض الراحة تمازجها غضبة من ذلك الرجل الذي تنازل لأول مرة في حياته عن عقيدة تمسك بها ورأي اقتنع به، ولكن الأمومة الملهوفة ما تلبث أن تغتفر، ويأتي المال، ويعرف سبيله إلى حمدي، وتأتي القضايا ويعرضها حمدي على هند فتراها خاسرة، ولكنها ترى حمدي يقبلها ليضمن مقدم الأتعاب ويزداد المال ولا تفكر العائلة في ثمن الدواء إذا مرض الطفل، بل وتأمن العائلة كل ما تأتي به السنون من أحداث، ولكن حمدي ما زال يعمل مع السمسار وما زال يقبل القضايا الخاسرة، ويلفق لها من وراء ضميره، بل إنه أصبح لا يطلع هندا على قضاياه ولكنها تقرؤها وترى أية هوة يتردى فيها حمدي.
ناپیژندل شوی مخ