ولكن حمدان كان يرى في قافلة هذه العروس آماله كلها قد تحققت فليس بينه وبينها إلا أن يمد بيده فإذا هذه الأوهام التي كانت تداعب خياله يوم ترك الحي قد أصبحت حقائق واقعة، وإذا حبه الذي كان أملا مستحيل التحقيق قد وافى؛ فها هي لمياء بين يديه لم يمنعها عنه مانع من زوج أو أب أو قبيلة، إنها حبه وصباه وشبابه، وهو، وتردد حمدان قليلا ، أجل هو، أتراه أيضا حبها وصباها وشبابها أم أن الأيام قد غيرت هذا الحب، نعم إنها لم تقل يوما إنها تحبه، لم تقل ذلك بلسانها، ولكنه رأى من عينيها أنها تحبه، وسمع تلك البسمة التي كانت ترتسم على وجهها عند اللقاء إنها تحبه، ولكن أترى ما كان يسمعه حقا أم هي أوهام محب وخيال شاب؟! سوف يعلم، وينهي حمدان إلى عصابته إنه اختار قافلة لمياء فيطيعون أمره في صمت.
ومنذ ذلك اليوم وحمدان لا يعمل شيئا إلا أن يترقب القافلة القادمة، وإلا أن يهيئ للمياء كل وسائل الراحة حتى لا تضيق بحياتهم المقفرة؛ فهو يقيم لها خيمة من الحرير تملؤها الوسائد اللينة والبسط النفيسة والأرائك الأنيقة.
وبدت القافلة في الأفق واستعد حمدان وعصابته، وما هي إلا بعض الساعات حتى كانت إغارة حمدان على قافلة العروس قد نجحت، فاختطفت العصابة لمياء وهرب أفراد القافلة جميعا حين رأوا كثرة العصابة.
وأدخلت لمياء إلى خيمتها، واتخذت لنفسها مكانا على إحدى الأرائك وبعد قليل دخل حمدان في أجمل ملبس، وانبعث في لهفة إلى لمياء يجثو تحت أقدامها. - لمياء. - من؟ اللص. - لمياء؟ إنه أنا، أنا. - ومن أنت؟ - أنا حمدان، ألا تعرفيني؟ - ومتى عرفتك؟ - أنا حمدان، صديق الصبا، أخو الطفولة، ماذا؟ أتراك نسيتني؟! - أنا لم أعرفك حتى أنساك! - إن وجهي لم يتغير كثيرا منذ تركت الحي، فما هذا الجفاء، ألأنني اختطفتك؟ لقد حسبت أن هذا يزهيك، أما ترين أنني ما فعلت هذا إلا لأني أحبك، نعم، أنا لم أقلها قبل اليوم، وكيف كان يمكن أن أقولها وأنت في سماء بيتك، وأنا في وضيع حقارتي، أما اليوم فانظري حواليك، انظري هذه البسط وتلك الوسائد وهذه الأرائك، اليوم نعم، اليوم أقولها أحبك، اليوم أنت لي، أنت حبي وصباي وشبابي، حمدان يا لمياء، ألا تذكرينني، حمدان؟ - لا، أنا أعرفك، لقد كنت أعرف حمدان آخر، وجهه كوجهك وقوامه كقوامك، ولكن نفسه غير نفسك، لقد كنت أعرف حمدان آخر، عرفته ونحن أطفال وعرفته ونحن شباب فكان في الطفولة مرح النفس محببا إلينا حين نلعب، قريبا من نفوسنا جميعا، وكان في شبابه رجلا شريف النفس عفيف الخلق، أما حمدان هذا الذي يجثو هنا، أما أنت فقاتل سفاك، قاطع طريق، أما أنت أيها الرجل فأنا لم أعرفك قبل اليوم ولن أعرفك. - لقد ظننت، لقد خيل إلي، يا لي من واهم مخدوع. - لم يكن حمدان واهما ولا مخدوعا.
فيجيبها حمدان في لهفة منتشية: إذن يا لمياء، هو أنا، أنا حمدان. - بل لست هو ولن تكونه، لقد مات حمدان إلى غير رجعة. - أتخادعيني؟ - بل لقد مات حمدان.
ويثور حمدان من ذلك الهدوء القاتل الذي تطالعه به حبيبته؛ فما هو بمن يطيق هذه المداورة فهو يقول في ثورة عنيفة: بل هو حي أمامك، وستكونين له شئت هذا أم أبيت، أنت هنا ملكي، أنت جاريتي، أنت لا حول لك ولا قوة، أنا كل شيء لك أنا مستقبلك ولا مستقبل لك إلا بي، أفهمت؟ - لقد فهمت هذا منذ جئت إلى هذه الخيمة، نعم، أني جارية اختطفني اللصوص. فأنا ملك لمن اختطفني فما لك ثائرا؟! أنت لم تقل هذا في أول الحديث، وإنما ادعيت أنني أعرفك وأنك تعرفني فكذبتك، أما أنني ملكك فهذا حق، أترى أيها اللص أنني لا أعارض في الحق أبدا. - لمياء، لمياء، بعض هذه القسوة ... - أي قسوة فيما أقول أيها اللص، لقد أردتني جاريتك، وها أنا ذا أطيعك، مرني بما تشاء أطعك، لن أخالف لك أمرا مهما يكن. - حتى لو طلبت إليك أن تهبي لي قلبك؟
وتجيبه لمياء في ضحكة ساخرة: أرأيت القلب يوهب بالأمر أيها اللص، لا، لا يمكن أن أطيع هذا الأمر، اللهم إلا إذا أردت أن تقتلني أو تسرق قلبي من بين ضلوعي. - بعض السخرية يا لمياء. - فبعض العقل أنت، أتأمرني أن أهب لك قلبي، حبي ويحك لقد أفرطت، أهب أحلام شبابي وآمال مستقبلي لقاتل، سفاك، وأهبها إطاعة لأمره. جهلت الحب يا فتى وادعيت كذبا. - أعرف أنني أستطيع أن أنالك، وأعرف أنني أستطيع أن آمرك فتصبحي لي وحدي، ولكن لم يكن هذا حلمي ، لقد كنت أحلم بحبك لا بجسمك، فأنت حرام علي منذ اليوم. - بعد أن اختطفتني وأنا في طريقي إلى زوجي؟! ألم تفكر فيما عسى أن يقال عني، ألم يدر بذهنك ذلك العار الذي ستلحقه بي؟! - لا والله لم يدر بذهني هذا؛ فقد كنت أحسب أنني سألقى فيك حبي القديم، أما اليوم، أما وقد ذكرت أنت هذا العار فلا وحياتك ما كنت لأجعل العار يلحق بك أبدا، ويخرج حمدان من ثيابه خنجرا لامع النصل فتجزع لمياء قائلة: ماذا أنت صانع؟ - سأجعل منك أعظم امرأة في هذه الأحياء، لقد طلب الرجال قتلي فلم يستطيعوا، لأكونن قتيلك، سأقتل نفسي بيدي، وقولي أنت لمن يسألك إنك قتلتني لتدافعي عن شرفك فأنقذته، فاذهبي أنت إلى السعادة في ظلال زوجك وحسبي أنا من الأيام ذكريات الصبا التي عشت بها ولها حتى اليوم.
وما إن يكمل حمدان قوله حتى يغرس الخنجر في قلبه في سرعة خاطفة وتذهل لمياء عن نفسها، لا تعرف ماذا تفعل فيسارع حمدان قائلا في حشرجة: أسرعي بالهرب، أسرعي قبل أن يأتي أحد، أسرعي، واذكريني، اذكريني أنني قاتل وسفاك وقاطع طريق ولكنني، أحببت، ووفيت ومنعت اسمك أن يلم به السوء.
وركعت لمياء إلى جانب حمدان في لهفة ملتاعة: لماذا يا حمدان، لماذا فعلت هذا بنفسك؟! إنما أردت بكلامي أن ترجع عن طريقك هذا، أنا هي لمياء التي عرفتها يا حمدان، فارجع إلى الحياة لتعيش شريفا نقيا كما عرفناك، حمدان، حمدان.
وجرت دموع لمياء غزيرة على وجه حمدان، دموع فيها حب قديم، وفيها حزن جديد، ولكن حمدان لم يحس بحب أو بحزن كان قد ترك الدنيا بكل ما فيها من مشاعر.
ناپیژندل شوی مخ