أبحروا إلى كولومبو في مياه خضراء شفافة كالزجاج، حيث طفت السلاحف والثعابين السوداء مستدفئة. وجاء أسطول من الزوارق تتسابق لملاقاة السفينة، يدفعها رجال في سواد الفحم بشفاه صبغتها عصارة التانبول بحمرة أشد من الدم، وقد راحوا يتصايحون ويتصارعون حول معبر السفينة أثناء نزول الركاب. وأثناء نزول إليزابيث وأصدقائها جعل اثنان من أصحاب الزوارق يستجدونهم بهتافهم، وقد احتكت مقدمتا زورقيهما بمعبر السفينة. «لا تذهبي معه يا آنسة! ليس معه! إنه رجل سيئ شرير، غير جدير باصطحابك يا آنسة.» «لا تستمعي لكذبه يا آنسة! إنه شخص حقير بغيض! إنه يخادع بحيل وضيعة بغيضة. حيل أهل البلد البغيضة!» «ها ها! وهو نفسه ليس من أهل البلد! لا! إنه رجل أوروبي، وبشرته بيضاء تماما يا آنسة! ها ها!»
قال زوج صديقة إليزابيث، الذي كان مزارعا: «توقفا عن الصخب وإلا ركلت أحدكما.» وركبوا أحد الزورقين الذي حملهم تجاه أرصفة الميناء التي أضاءتها الشمس. وقد استدار صاحب الزورق الفائز ونفث على غريمه ملء فمه بصاقا لا بد أنه ظل يدخره وقتا طويلا جدا.
كان هذا هو الشرق. حمل الهواء الساخن المضطرب روائح زيت جوز الهند والصندل، والقرفة والكركم عابرا المياه. خرج أصدقاء إليزابيث بها إلى ضاحية ماونت لافينيا، حيث تحمموا بمياه البحر الفاترة التي علاها زبد مثل الكوكا كولا. وعادت إلى السفينة في المساء، ثم وصلوا إلى رانجون بعد ذلك بأسبوع.
في شمال ماندالاي كان القطار الذي تغذى بالحطب، يسير رويدا بسرعة اثني عشر ميلا في الساعة عبر سهل شاسع جاف، تحد أطرافه النائية دوائر زرقاء من التلال. وقد وقفت طيور البلشون البيضاء من دون حراك مثل طيور مالك الحزين، ولمعت أكوام من الفلفل الجاف بلون قرمزي تحت أشعة الشمس. من حين لآخر كان يبرز في السهل معبد أبيض كأنه صدر واحدة من العمالقة مستلقية على الأرض. هبط الليل المداري المبكر، ومضى القطار مرتجا، على مهل، متوقفا في محطات صغيرة حيث ترددت صيحات همجية في الظلام. إذ كان هناك رجال نصف عراة عاقدين شعورهم الطويلة وراء رءوسهم، يتحركون جيئة وذهابا، وقد بدوا في بشاعة الشياطين في عيني إليزابيث. توغل القطار في الغابة، ولامست الفروع غير المرئية النوافذ. كانت الساعة التاسعة تقريبا حين وصلوا كياوكتادا؛ حيث كان عم إليزابيث وزوجته منتظرين مع سيارة السيد ماكجريجور، وبعض الخدم الذين حملوا مشاعل. تقدمت زوجة العم وأخذت بمنكبي إليزابيث بين يديها الرقيقتين الشبيهتين بالسحالي.
قالت: «أعتقد أنك إليزابيث، ابنة أخينا؟ إننا في غاية السعادة لرؤيتك»، ثم قبلتها.
حدق السيد لاكرستين من فوق منكب زوجته في ضوء المشعل، ثم أطلق نصف تصفيرة، وهتف: «يا للهول!» ثم ضم إليزابيث وقبلها، بدفء أكثر مما كان ينبغي عليه، كما اعتقدت. فهي لم تر أيا منهما من قبل قط.
بعد العشاء، راحت إليزابيث وزوجة عمها تتحدثان تحت المروحة في حجرة الاستقبال. أما السيد لاكرستين فكان يتمشى في الحديقة، بذريعة أنه يشم عبير زهور الياسمين الهندي، لكنه في الحقيقة كان يتناول شرابا خلسة هربه إليه أحد الخدم من مؤخرة المنزل. «كم أنت جميلة حقا يا عزيزتي! دعيني أنظر إليك مرة أخرى.» ثم أمسكت بمنكبيها وقالت: «أعتقد حقا أن الشعر القصير يناسبك. هل قصصته في باريس؟» «أجل. فالجميع هناك يقصرون شعرهم. إنه يناسب من كان رأسها صغيرا بعض الشيء.» «جميل! وتلك النظارة المزخرفة المصنوعة من صدفة السلحفاة، يا لها من موضة جذابة! لقد سمعت أن كل ال... آه ... النساء في أمريكا الجنوبية بدأن يرتدينها. لم أكن أعلم أن لدي قريبة بهذا الجمال الصارخ. قلت لي كم عمرك يا عزيزتي؟» «اثنان وعشرون.» «اثنان وعشرون! كم سيسر الرجال جميعا حين نصطحبك إلى النادي غدا! فيا لهم من مساكين، يشعرون بوحدة شديدة لعدم رؤيتهم أي وجه جديد مطلقا. وهل مكثت عامين كاملين في باريس؟ لا أتخيل ما الذي يمكن أن يكون دها الرجال هناك ليتركوك تغادرين من دون زواج.» «أخشى أنني لم أكن ألتقي بالعديد من الرجال يا عمتي. أجانب فقط. فقد كان علينا أن نعيش حياة هادئة جدا.» ثم أردفت قائلة: «كما أنني كنت أعمل» وقد راودها شعور بأنه اعتراف مخز بعض الشيء.
تنهدت السيدة لاكرستين قائلة: «بالطبع، بالطبع. نسمع بهذا الأمر من هنا وهناك. فتيات جميلات يضطررن للعمل من أجل كسب الرزق. يا له من شيء مؤسف! أعتقد أنها أنانية فظيعة أن يظل هؤلاء الرجال بلا زواج بينما هناك الكثير جدا من الفتيات المسكينات اللواتي يبحثن عن أزواج، أليس كذلك؟» لما لم تجب إليزابيث على هذا السؤال، أضافت السيدة لاكرستين بتنهيدة أخرى: «من المؤكد أنني لو كنت شابة صغيرة كنت سأتزوج أي أحد، أي أحد حرفيا!»
التقت عينا السيدتين. كان لدى السيدة لاكرستين الكثير الذي أرادت قوله، لكنها لم يكن لديها نية أن تزيد عن التلميح له بمواربة. وقد جرى جزء كبير من حديثها بالتلميحات؛ بيد أنها تدبرت عامة أن تجعل مقصدها واضحا بدرجة معقولة. إذ قالت بنبرة محايدة رقيقة كأنها تناقش أحد الموضوعات العامة: «لا بد أن أقر بالطبع أن إخفاق الفتيات في الاقتران بزوج يكون في بعض الحالات خطأ منهن. وهذا يحدث أحيانا حتى هنا. تحضرني إحدى تلك الحالات التي وقعت منذ فترة قصيرة؛ إذ حضرت فتاة إلى هنا وأقامت مع شقيقها عاما بأكمله، وقد جاءتها عروض من كل أصناف الرجال؛ شرطيون ومسئولو غابات ورجال يعملون في شركات أخشاب ينتظرهم مستقبل طيب جدا. وقد رفضتهم جميعا؛ إذ أرادت أن تتزوج زواجا مختلط الأعراق حسبما سمعت. حسنا، وماذا كانت النتيجة؟ بالطبع لم يستطع أخوها أن يحتفظ بها إلى الأبد. سمعت أنها الآن في الوطن، تعمل المسكينة وصيفة، بالأصح خادمة، وتحصل على خمسة عشر شلنا فقط في الأسبوع! أليس هذا أمرا مروعا؟»
قالت إليزابيث مرددة: «مروع!»
ناپیژندل شوی مخ