رابعا:
طبعا دار حديث طويل عن الشرق الأوسط بمناسبة وجودي، فيكفي أن تسمع الأسئلة الدقيقة المستنيرة التي كانوا يسألونها، والتي تدل على أنهم ليسوا في عماء وجهالة كالتي رأيتها في كولمبيا بالنسبة للعالم الخارجي، لتعلم الفرق البعيد بين إقليم وإقليم، بين الجنوب من ناحية والغرب من ناحية أخرى ... يسألونك هنا مثلا عن حركة الإخوان المسلمين، وعن حركة الدروز في سوريا، وعن قوة الشيشكلي أو ضعفه، وعن عزم الباكستان أن تكون دولة دينية، أعني دولة ثيوقراطية، وعن مصر هل تنوي أن تفعل ذلك في دستورها الجديد؟ وآثار ذلك إذا كانت له آثار؛ وإذا ورد ذكر الإسلام، فمنهم من كان يعلق تعليق الفاهم فيقول أحدهم مثلا: إن الفرق بين المسيحية والإسلام هو فرق في المسيح لا في الله؛ فالديانتان إلههما واحد بعينه، لكن المسلمين يفهمون المسيح فهما يختلف عن فهم المسيحيين ... وهكذا وهكذا، فما أبعد هذا الجو المستنير عن مثيله في كولمبيا حين كان الناس يسألونني أسئلة كلها سذاجة وقلة اهتمام بأمور الدنيا الخارجية.
الخميس 4 فبراير
ذهبت بعد الغداء مع الدكتورة سنثيا شستر - أستاذة الفلسفة - إلى مكان تسجيل الطلبة للنصف الثاني من العام الدراسي، فوجدته منظرا يكاد يبعث على الضحك؛ ففي الملعب الكبير المسقوف مدت مناضد على شكل حدوة الحصان، وجلس ممثلو الأقسام المختلفة في الجامعة، وكتب أمام كل منهم لافتة باسم القسم، مثلا «فلسفة» أو «طبيعة» أو «لغة إنجليزية» ... إلخ، ويأتي الطالب فيسأل ممثل القسم الجالس: ماذا أستطيع أن أتلقى عندكم من أشواط دراسية؟ فيوضح له ممثل القسم أنواع الدراسات التي عنده ... والذي أضحكني هو أن المنظر كان أشبه بمنظر الدلالين الذين ينادون على بضاعة يريدون بيعها؛ فممثلو الأقسام حريصون كل الحرص على أن يلتحق الطلبة بأقسامهم؛ ولذلك هم يعرضون ما عندهم بشكل فيه إغراء للطالب ... ويسأل الطلبة أحيانا أسئلة تضحك، فمثلا جاء طالب إلى ممثلة قسم الفلسفة الدكتورة شستر، وكنت واقفا إلى جوارها، فسألها: ماذا في القسم من دراسات تصلح لي؟ فقالت له: كذا وكذا وفلسفة إسلامية؛ فسأل في دهشة: فلسفة إسلامية؟! ما هذه وما عساها أن تكون؟ (يلاحظ أن الفلسفة الإسلامية أضيفت إلى الدراسات هذا النصف الثاني من العام بمناسبة وجودي فقط وستزول بعد سفري) فقالت له الدكتورة شستر: هي دراسات عن الإسلام، ومن المفيد لنا أن نعرف عن ثقافات العالم المختلفة ... إلخ إلخ؛ فسألها الطالب: وما موعد هذه المحاضرات؟ فقالت له: أيام الإثنين والأربعاء والجمعة من الساعة الواحدة والثلث؛ فصفر الطالب وقال: واحدة وثلث! إني أكون عندئذ أنزلق على الجليد، لا، هذا لا ينفعني، ماذا عندكم غير هذا؟! وهكذا وهكذا، والطالب لا يعجبه شيء في قسم الفلسفة فيستعرض أقساما أخرى ليرى ماذا يروق له لينتقيه ... وترى الأساتذة في قلق أضحكني، فمثلا إذا كانت هناك مادة لم يتقدم إليها أحد ، وجدت ممثل القسم مشغول البال، يبحث جادا عن طلبة لها، ويوصي زملاءه في الأقسام الأخرى أن ينصحوا الطلبة بالتقدم إلى هذه المادة المهجورة وهكذا.
الجمعة 5 فبراير
دعانا الدكتور «د. و» وزوجته إلى مشاهدة رواية تمثيلية ... المسرح غرفة من فندق، وهو شيء لم أشهد له مثيلا، ولو أنه يقال إنه نوع من المسارح انتشر في الولايات المتحدة وخصوصا الولايات الغربية، ويسمونه «مسرح الحلبة»، وذلك أن تصف المقاعد صفوفا على جوانب ثلاثة من جوانب الغرفة، ويترك الجانب الرابع مؤديا إلى الأبواب التي يدخل منها الممثلون ويخرجون، والمسرح هو وسط الغرفة، فإذا انتهى فصل أطفئت الأنوار كلها لحظة قصيرة ثم أضيئت على الفصل الثاني.
أحسست بغرابة في أن يكون التمثيل قائما بين صفوف الجالسين، ولكني كذلك أحسست عمق الأثر وصدقه؛ لأنك سرعان ما تنسى أنك إزاء مسرح وتمثيل؛ لانعدام الوسائل المصطنعة؛ فالأمر في حقيقته لا يزيد ولا يقل عما لو كنت جالسا في بهو فندق وأمامك الناس يتكلمون، هم في حالهم وأنت في حالك، لكنك تسمع ما يقولون وترى ما يصنعون لقربهم منك؛ وإذا فهذا النوع الغريب من المسرح التمثيلي تنقصه ما في المسرح المألوف من جو مسرحي خاص، لكنه في مقابل ذلك يزيد عن المسرح المألوف في عمق الأثر وصدقه.
الرواية التي شهدناها رواية مشهورة، عنوانها «ولدت بالأمس» وخلاصتها أن فتاة لعوبا مغرية كانت جاهلة ساذجة، فاستغلها ثري يجمع ثراءه بالغش مستعينا في ذلك برشوة عضو في الكونجرس، وعن للثري أن يعلم غانيته هذه حتى تصلح للمجتمع الذي يتحرك فيه؛ فجاءها بمعلم خاص ظل يعلمها حتى جاوزت الحد المطلوب إلى حد جعلها تفهم حقائق الأمور وتثور عليه وتفضحه ... ويقال إن للرواية أساسا حقيقيا في عهد الحكومة الماضية؛ إذ استطاع رجل أن يثرى ثراء ضخما برشوته لأصحاب النفوذ ... وحدث أن أحبت الفتاة معلمها وأحبها المعلم فتزوجا، وإذا فهي قائمة على نفس الأساس الذي تقوم عليه رواية «بجماليون» لبرناردشو؛ وعلى كل حال فالموضوع قديم قدم اليونان: حب الفنان لفنه؛ ففي أسطورة بجماليون الأصلية أحب النحات تمثاله الذي نحته، وبعدئذ راح رجال الأدب يستمدون من الأسطورة تخريجات أخرى، من أشهرها أن يكون الفنان معلما وأن يكون الأثر الفني متعلمة، وأن يقع الحب بين الفنان وأثره؛ أي بين المعلم وتلميذته.
والممثلون والممثلات في مسرحية الليلة كلهم من الهواة، ولعل هذا أعجب ما في الأمر كله؛ لأن تمثيلهم قد بلغ حدا من الجودة يستحيل أن يبلغه إلا ممثلون وممثلات من الطراز الأول؛ وليس يخامرني شك في أن الفتاة التي مثلت دور الغانية سيكون لها في عالم التمثيل شأن كبير؛ وقد سألت فعلمت أنها تعمل بائعة في نادي الاتحاد - اتحاد الطلبة - وهي في الوقت نفسه طالبة.
ذهبنا بعد مشاهدة التمثيل إلى منزل الدكتور «د. و»، وظللنا نتحدث إلى قرب الساعة الواحدة بعد منتصف الليل؛ إنني كل يوم أزداد إيمانا بالفارق البعيد بين الغرب والجنوب في وجهات النظر؛ فقد تحدثنا الليلة في مشكلة الزنوج، فوجدتهم يستبشعون الفصل اللوني السائد في ولايات الجنوب.
ناپیژندل شوی مخ