أرجو أن يجد قارئ هذا الكتاب ما قد أردته له من فائدة ونفع.
زكي نجيب محمود
الجيزة، يوليو 1957م
الفصل الأول
في الطريق، وفي الجنوب
الأربعاء 16 سبتمبر 1953م (في الطائرة)
غادرت القاهرة ظهر اليوم، وجلست في الطائرة إلى جوار شاب في مقتبل العمر حسبته عراقيا، لكنه سرعان ما تبين أنه من نيكاراجوا، هو القنصل العام لبلده في شرق الأردن وإسرائيل، يتكلم العربية متعثرا ... وما كدنا نعلو في الجو فوق قطع السحاب الخفيف المبعثر فوق أرضية صفراء هي أرض الصحراء الغربية، حتى مرت بنا المضيفة باسمة توزع علينا قطع النعناع، وبعد أربعين دقيقة أعلن الميكروفون في الطائرة أننا الآن فوق مدينة الإسكندرية، فنظرت فإذا بالإسكندرية لا تزيد على خطوط رفيعة مرسومة بالقلم الرصاص على الورق، وهنا ذكرت من أعرفهم هناك من أهل وأصدقاء، وقلت لنفسي: إذا كانت المدينة الضخمة قد استحالت إلى هذه الخيوط الرقيقة، فبأي منظار يمكن أن أرى الناس؟ والإنسان في هذه الحالة أميل إلى التسرع بالحكم على نفسه بالتفاهة والضآلة؛ فقليل من الارتفاع في الجو يمحوه؛ فماذا يكون أمره عند الرائي من أفلاك أخرى وأكوان أخرى؟ لكن الخطأ هنا هو نسيانه أن الطائرة التي مكنته من الصعود هي من صنعه ووليدة فكره وطموحه وخياله الوثاب. إن أول سطر ينبغي أن يكتب في كتاب ثورتنا وأن يقرأ ألف مرة كل يوم، هو أن نقرر لأنفسنا عن عقيدة قوة الإنسان وجبروته، وأن نمحو من صفحات أذهاننا هذا الوهم الذي ما ينفك يعاودنا ويخيفنا، وهو أن الإنسان مخلوق تافه ضعيف.
غادرنا صفرة الرمال إلى زرقة الماء، فودعت بذلك وطني، وهبطنا في أثينا وفي روما وفي زيورخ وفي باريس وفي شانن بأيرلندة، ومنها عبرنا المحيط الأطلسي؛ ولهذا وقفت المضيفة تشرح لنا كيف تلبس معاطف النجاة إذا اضطرت الطائرة إلى الهبوط فوق الماء.
ركب الطائرة في باريس قسيس أمريكي وجلس إلى جانبي، طويل الجسم عريضه، حليق اللحية، لا يدل على أنه من رجال الدين شيء في مظهره سوى الصدار الأسود؛ فكان هذا أول أمريكي أتحدث إليه في رحلتي إلى أمريكا؛ إنني مقدم على هذه الرحلة معتزما أن أخبر الشعب الأمريكي عن كثب، لا أتأثر في حكمي إلا بما أراه وما أسمعه؛ ولما كان الشعب هو مجموعة أفراده، فمن الأفراد الذين سألتقي بهم وأحدثهم ستتكون فكرتي الخاصة عن الأمريكيين، وإذا فلأنصت جيدا إلى كل حديث، ولأقرأ جيدا كل ما أراه على الوجوه من تعبير؛ فهذا القسيس الأمريكي قد بدت منه علامات الطيبة القلبية منذ اللحظة الأولى، كان على أسرع استعداد أن يعين كلما اقتضى الأمر أن يقدم معونة إلي، ولما شكرته ذات مرة على قدح القهوة الذي تناوله من المضيفة وناولني إياه، اطرد بيننا الحديث، فسألته هل ذهبت إلى مصر؟ فقال: لا، إن أبعد ما وصلت إليه في أسفاري هو روما، لقد عبرت المحيط مرتين ... ولما عرف أني مصري سألني: ما حقيقة الموقف بينكم وبين الإنجليز؟ ثم سرعان ما تدارك قائلا: معذرة، فأظنكم على صلة بالفرنسيين لا بالإنجليز، فصححت له الخطأ وأفهمته أن المشكلة الرئيسية هي بيننا وبين الإنجليز، فسألني: إذا فأنتم خاضعون لبريطانيا، وأنتم لا تريدونها أن تحكمكم، أهذا هو الموقف؟ فابتسمت قائلا: ليس في الأمر خضوع ولا حكم، إننا دولة مستقلة حرة، والأمر كله قائم على وجود قوة عسكرية لهم على جزء من أرضنا هي منطقة قناة السويس، ونريد إخراج تلك القوة من هناك، فانتقل فجأة إلى سؤالي عن عدد الكاثوليك في مصر ... ومضينا في الحديث، فعجبت إذ رأيت بدايته الدالة على جهل شديد بمصر، قد انتهت إلى نهاية دالة على كثرة معرفة وسعة اطلاع، ولولا أنه مشغول العقل بالكاثوليكية إلى حد أعجزه عن التفكير في شيء إلا إذا مزجه بالكاثوليكية؛ لكان رجلا رفيع الثقافة.
قدم لي سيجارة فاعتذرت شاكرا؛ لأني لا أدخن، فقال: ولا أنا أدخن السجائر إلا في رحلة كهذه، لكني بالطبع أدخن السيجار. وعرف أني مشتغل بالفلسفة فسألني عن الوجودية من جهة، وعن الوضعية المنطقية من جهة أخرى، وطلب مني أن أشرح له وجهة نظري في علاقة هاتين الفلسفتين المعاصرتين بالكاثوليكية، فهو يريد أن يعلم إن كان هو قد أصاب الرأي حين رأى أن هاتين الفلسفتين خطر على الدين، فشرحت له رأيي في الوجودية وفي الوضعية المنطقية، لكني رفضت أن أقول شيئا في علاقتهما بالدين، تاركا له هذه الناحية من الموضوع يفيض فيها الحديث ما شاء؛ لأنها تشغله أكثر مما تشغلني، وتهمه أكثر مما تهمني.
ناپیژندل شوی مخ