وهكذا استطرد الكلام فترة طويلة، كان محدثي أهدأ مني، لكني كنت أقوى منه حجة وأسرع فكرا، وانتقل الحديث إلى فرويد والمسيحية، فتركته لهم وجلست صامتا حتى النهاية.
لست متعصبا في الدين، لكني بعد هذه الزيارة لأمريكا، وبعد ما سمعته من ملاحظات عن الإسلام تدل على أن هؤلاء الناس يظنون بالإسلام شر الظنون، فهو عندهم وثنية أو شر من الوثنية، وهو عندهم همجية وتأخر، أصبحت الآن أرى وجوب اتخاذ الوسائل كلها لنشر جوهر التعاليم الإسلامية مبسطة؛ ليفهم هؤلاء الناس أننا لسنا في الدين من التخريف بحيث يظنون.
الثلاثاء 15 ديسمبر
ذهبت إلى السينما وشاهدت فيلما جيدا حقا، فيه اللمسة الإنسانية غاية في القوة: فتاة يموت أبوها وهي بعد طالبة ولا يعولها أحد، فتشتغل بالتدريس في الريف، وكان أبعد ما يتصوره خيالها أن تتزوج من فلاح فقير، لكن حدث أن أحبها فلاح وأحبته، وعاشت معه فيما يشبه الفقر الشديد، وأنجبا طفلا ومات الوالد، وجاهدت الأم جهادا تمثلت فيه المثل الإنسانية العليا، حتى تخرج ولدها مهندسا للعمارة، وكانت الأم في شبابها مغرمة بالموسيقى؛ فهي تقدر الفنون ، وتقدر أن يعيش الإنسان بفن منها؛ ولذلك أفرحها أن يكون ابنها من رجال الفنون في كسب عيشه ...
لكن الفتى أراد الزواج، فتزوج من فتاة لا تفرق بين العمى والسما، ولا يهمها إلا أن يكسب الزوج مالا، وفن هندسة العمارة قد يكون بطيء الكسب، فدفعته دفعا أن يترك فنه ليكون سمسارا يصل ما بين مهندسي العمارة وبين من يريدون البناء، وكسب عن هذا الطريق ألوفا، لكنه لم يكسبها عن طريق فنه، فلما عرفت أمه ذلك؛ تحطم قلبها من أجل ولدها؛ فقال لها: كنت أظنك يا أماه تفرحين حين تعلمين أنني أكسب كذا ألفا من الريالات في الأسبوع الواحد؛ فأجابته أمه إجابة رائعة، هي التي جعلتني أثبت خلاصة القصة لأثبت تلك الإجابة، قالت له: الفرق يا بني بعيد بين من يقطع التذاكر في شباك الأوبرا وبين من يدخلون ليشاهدوا الأوبرا، مهما كسب الأول وخسر الآخرون فهو في خارج البناء وهم في داخله يشاهدون، وعملك في السمسرة مهما أكسبك الألوف، هو عندي بمثابة قاطع التذاكر، وكنت أحب أن تمارس فنك مهما كان كسبك من ورائه ضئيلا ...
فأحسست إحساسا غامضا أني قد قضيت شطرا طويلا من عمري قاطعا للتذاكر أعطيها لغيري فيدخلون ويشاهدون ... ولم أدرك تماما ما وجه الشبه بيني وبينه، لكنها على كل حال حكمة بالغة، فلأن يعيش الإنسان بفنه أو بعلمه - ولو كسب منه القليل - خير ألف مرة من أن يجعل من نفسه وسيطا لأصحاب الفنون والعلوم، مهما جاءته هذه الوساطة من مال وجاه.
الأربعاء 16 ديسمبر
كنت أحاضر في جمهورية أفلاطون، وذكرت ما ورد فيها عن الأطفال أن يكونوا أبناء الدولة، فاعترضت الآنسة «ج» وهي طالبة ذكية، قائلة: إن هذه التربية للأطفال مستحيلة؛ لأنها تخلي محيط الطفل من عاطفة الأمومة، ولا حياة لطفل بغير عاطفة، فقلت لها: الأمر يحتاج إلى تجربة ... فقالت: قد أجريت في ذلك بعض التجارب التي لها دلالتها، فقلت لها: أين قرأت عن هذه التجارب؟ فأجابت: في مقال سأبحث لك عنه.
وجاءتني اليوم بمجلة فيها تقرير عن تجربة قام بها عالم في اللغات، وهي أنه جمع بضعة أطفال من اللقطاء، وعهد بهم إلى مربيات طلب إليهن ألا يكلمنهم أبدا، بل يطعمنهم وهن صامتات، فمات الأطفال على مر الأيام، ولم تتم للعالم تجربته ... وعلى الرغم من أن التجربة ليست قائمة على موضوع عطف الأمومة بالذات، لكنها - كما قالت الآنسة «ج» - تجربة لها دلالتها وتستحق أن تذكر.
وقرأت اليوم قصة طويلة في مجلة «بوست» أعجبتني فكرتها، لكن حوادثها لم تمتعني؛ لأنها تفصيلات عن تربية الأغنام التي لا علم لي بها، وذلك أن حوادثها تدور في مرعى للغنم ... القصة عنوانها: «حمى العروس» وهي تحليل للشعور بالمقاومة التي تشعر بها العروس شعورا خفيا حين يتقدم إليها الخاطب ... ورثت فتاة عن أبيها مرعى كبيرا من الغنم، وكان أبوها قبل موته قد وضع خطة لزواج ابنته من شاب رباه ودربه على رعاية الغنم؛ ومات الوالد وجاءت الفتاة من جامعتها إلى حيث المرعى، فكان الشاب يعلم أنها في حكم خطيبته، حتى لقد أعد خاتم الخطبة انتظارا لقدومها، لكن الفتاة أرادت إثبات شخصيتها، فقالت له إنها ستتولى المرعى بنفسها مدة من الزمن، وإنها لم تقرر بعد الزواج منه؛ وأراد الشاب أن يرد عليها بما يقرر سلطانه عليها، فقالت له الفتاة في كبرياء: على رسلك يا هذا! أحسبتني غنمة من الغنم؟
ناپیژندل شوی مخ